لا تزال الكلمات ترواح بين إعتدال وإبتذال ، بين التي هي أحسن والتي هي أخشن . بين عنف ولطف ، بين القيافة والهيافة.
وبكلمة يستطيع أحدهم ؛ لو تحقق من بياض ضميره وجزالة حدسه وحديثه ؛ أن يبني مع الغير جسورًا من محبة ، عابرة للبحار، وأن يبخٌر باطنهم بعطرٍ من أغلى ما حواه ماعون اللغة من لطائف ومعارف .
كما بوسعه ؛ أن يفسد دهره ويسحق مجده بكلمة تساوي في قوة ردعها ألف ( كدمة أولكمة )تصدر عن عاطفة عنيفة ، لو مزجت بماء النيل لأفسدته وأملحته .
سمعتم بالتأكيد؛ بالإغتيال المعنوي ، الذي يعني التوبيخ بأقذع الألفاظ والأوصاف التي تُفضي بالمستهدف ، أيًا كان موقعه ؛ سياسيا لامعًا أو فنانا ذائعًا أو رياضيا واسع الشهرة ، إلى تلطيخ سمعته الشخصية توصلا لإتلافها وإقصائها عن المشهد الحياتي إجمالا ، ما يؤدي عند البعض ؛ إلى الإنتحار الفعلي المباشر !
باللغة المنطوقة أو المكتوبة ، يستطيع صاحبها ؛ المسيطر على أشواقه وألفاظه ؛ أن يخرج من وحل البهيمية إلى رحابة الإنسانية ، وأن يبني مركزه الإجتماعي و يشكٌل وجوده ، فإما أن يرتقي فيرقى أو يضمحل فيشقى.
واللغة العنيفة، كما سماها الفرنسي (جان جاك لوسركل) في مؤلفه الذائع ( عنف اللغة)
تعني التوسل بكلمات أو إشارات من خارج نطاق ( المحمود) أو هي المتبقي المتفلٌت من اللغة المستساغة .
يتوسل بها المرسِل قاصدًا الإستئساد والتنمر على الآخر والسيطرة عليه ،أو ربما للدفاع عن النفس وتحصينها .
إنها معركة كلامية بين طرفين، الكاسب فيها من يمسك بتلابيب اللغة ويتحكم في نظمها وطريقة إرسالها .
والتعنيف باللغة هو القصف أو القذف بالكلمة الحارقة في لحظة خصام أو تنازع تكون خارج سيطرة المتكلم . لحظة مفصلية متكثٌفة يضيق فيها صدره ، تتغير طبقات صوته ولون جسده .
فيتطابق فيها ظاهره مع باطنه، بحيث لا يستطيع الإمساك بأدواته ، ثم تتلاعب به الكلمة ، وتفلت منه لتعيش عمرًا أطول من عمره ، تدفنه ولا يدفنها.
ومثال ذلك ؛ التعنيف باللون أو الجنس أو الدين أو الطبقة ، وكل ذلك يتم تصريحا أو تلميحا ، وبحركة الجسد أو بالعينين قبضا و إنبساطا.
سُئل مرة الكاتب الصحفي والقاص الألمعي غابراييل غارسيا ماركيز عن أي اللغات ستندثر ؟ وأيها سيعيش ويبقى مع الزمن ؟
فأجاب : ستبقى الإنجليزية والصينية والإسبانية والعربية ..أما بقية اللغات فستندثر وتزول !
سأله المذيع لماذا ؟
قال : الانجليزية بحكم التكنولوجيا ،والصينية بحكم الديمغرافية، أما
الإسبانية فبحكم أنها لغة آداب literature ..
فقال له المذيع و لماذا العربية ؟
فرد ماركيز : بحكم أنها لغة أخلاق وآداب. و العالم سيجد نفسه مضطرًا إلى الرجوع إليها لإسترجاع قيمه الإنسانية ، بعد أن يكون قد فقدها بسبب النزعة المادية المتوحشة للحضارة الغربية .. !
ختامًا ، أيها الناس ؛ فلتتقاربوا بالتي هي ألْين ، ولتتباعدوا عن كل تعانف وتخاشن وفظاظة لغوية ، فإنها ستفارق بينكم وبين من تحبون أو تعايشون ، فينفض عنكم سمٌاركم ولا يبقى منكم إلٌا أنتم ، ثم لا تلوون على شيء .
ودمتم