لستُ بصددِ الحديث عن عبقريُّ الكلمة، والمثقف الشامل، والمسرحي المخضرم، والشاعر الفخيم، والاديب الاريب، والإعلامي الألمعي، والاستاذ الجامعي المستنير د.عثمان البدوي، فهذا بحر لا اجيد السباحة فيه، وفضاء من المعرفة يصعب إدراك جوانبه . فقط هي انطباعات وددت تسجيلها لتكون اعترافا بفضل د.عثمان البدوي عليّ وعلى كثيرين من أصدقائي. وانا في مقتبل العمر،كنت استمع لحديث إخوتي واصدقائهم عن استاذ موهوب ومسكون بالادب والفنون، تعلموا على يدية الفن المكتوب، والمسموع، والمخطوط، يتحدثون عن ابداعة بإمتاع عميق، وعن ثقافة تنداح فتملأ جنبات ملتقياتهم الثقافية وتثري مدارسهم الاولية، وعن اناقة تتراقص لرؤيتها الأحاسيس، وتهدأ من روعتها الامزجة. يتناولون في مجالسهم بدهشة دفقه الادبي، وفصاحة لسانه، وحلو كلامه، وسلسبيل شعره، حتى اذا تحدث صمت الجميع وكأن على رؤسهم الطير لعذب حديثه وروعة إلقائه. إختزنت مُخيّلتي كثيرا مما استرقه سمعي من ذلك الأُنس المستفز، والمحرض، للبحث عن رؤية ذلكم الشخص، والتشبث بحبل الأمل في لقاء حميم يكون كفاحا، وقد يبدو ذلك وقتئذ بعيد المنال وصعب الإدراك. هكذا تشكلت معالم اول صورة للاديب د.عثمان البدويّ في ذهني، ووقتذاك مازالت الاشياء الجميلة تحتفظ بألقها، وخصوصيتها، ودلالها، وبهاءها وجمالها، الذي يجعل منالها أو الاطلاع عليها، يتطلب جهدا كبيرا، وليس كما هو الآن إذ أنك تستطيع ان تتحصل على المنتجات الادبية المكتوبة والصوتية والمشاهدة لأي شخص، بالتنقل على لوحة مفاتيح الهاتف، فتستطيع بذلك ان تنسف تل من الفضول وكثيب من الأمل لرؤية شخص او الإطلاع على منتجاته الادبية او تبادل الصور والشعور الدافئ بينكما. ظلت امانيُّ الرؤية، وهواجس اللقاء بالاديب د.عثمان البدوي، تأسِرُنا ردحا من الزمان، ويزيد شغفنا الى اللقاء كلما ذكر إسمه في المذياع ناظما لقصيدة غنائية، او مقدما لبرنامج، او ممثلا في مسرحية، فقد سطع نجم مبدعنا د.عثمان في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، إذ كان من المثقفين القلائل، الذين تحتفي بهم مجالس الأدباء، وتسعى إليهم ركبان المعجبين. ظل لقاء ومشاهدة د.عثمان البدوى من الرجاءات المستحيلة والتوقعات الخياليّة، فكيف بمثلي ان يلتقي بشخص ملءُ السمع والبصر، حتى جمعتني به مجامع جامعة القضارف، هذا الربع الرائع، الذي ضم في سنواته الأُول، نخبة من النبلاء، وثُلّة من أمَاثِلُ الناس، تربط بينها وشائج إخاءٍ حميم، وأواصر وفاء ودود، وصفاء سخين، تتسع مساحته ولا تضيق البتةَ، يتقاطر إلي رحابه الدافئ المحبين من المنتسبين الجدد للجامعة، كالفراشات الرقيقة التي لا تقوى اجنحتنا على التحليق بين هؤلاء الجهابزة، ورغم ذلك كانت البهجة تملأ جوانِحُنا، والدهشة تمسك بتلابيب احاسيسنا ومشاعرنا. ظللنا نقترب رويد رويدا من اديب الادباء وشاعر الشعراء، الذي كانت تكسوهُ هالة من الهيبة والجمال، والبهاء والوقار، والاناة والهدوء، والتفكّر والتبصّر، إذا تحدث ارخى الكل دوائر أذنيه مستمعا لاسلوب الحديث الماتع البديع، وإذا نهض قائما تحلق حوله الاحباب والمريدين، لينالوا حظّاً من مكنوناته الادبية ولو مثقال ذرة، والمثقال عنده جزيل، والذرة عنده صلدا.
أحسِن إلى الناس تستعبد قلوبهم، فطالما استعبدَ الإنسان إحسان.
من الحقائق المدهشة التي تبينتها عند اقترابي من اديبنا د.عثمان البدوي، انه مهذب بما يزيد، متواضع بما لا نهاية، مترامي اللطف، متناهي الرقة، سمح الخُلق، يٌؤلف ويَألف دون تَكلُف ولا تصنّع، مرتب ومنظم، شفيف ومرهف، ذّوق يتجلَّى ورُقِيُّ يتبدَّى، حاضر الانفعال في المواقف المؤثرة، يتغابى ويتسامى عند التجاوزات، لا يُجامل ولا يُحابي، سهل المراس، ليِّن العريكة، سلِس الخُلق، عميق الثقافة، لا يُملُّ حديثهُ، لَبِقٌ ذَرِبُ اللسان، في اللغتين العربية والإنجليزية، حاضر الطرفة والمُزحة، لا تفارق الابتسامة مُحيّاه الوسِيم، عزيز النّفس كتلك التي تشعرك بالإكتفاء رغم الحاجة. بعد التلاقي والتقارب تلاشت كثير من الخطوط المتوهمة، وارتسمت بيني وبينه كثير من الخطوط البنفسجية التي تحمل الاحترام والتقدير والتوادد والتحابب. ظللت احرص على لقاءات الاخ د.عثمان في مكتبه، وفي داره التي شهدت كثير من حلقات المثقافة والاستنارة، في ضروب المعرفة المختلفة، وكان لسان حالنا يلهج، على الرملِ جلسنا وتانسنا وعن ضروب المعرفة تحادثنا، تحفنا في جلساتنا الشهامة الشمّاء، والكرم الحاتمي الفيّاض، وهذا ليس بمستغربٍ، فالعود في ارضه شئٌ من الحطبِ، كذلك كنت احرص على مجالسته في لقاءات الجامعة الرسمية وغير الرسمية، ومن جالس العلماء علم، ومن جالس الادباء برع وحذق. تجمعني بالاخ د.عثمان البدوي، علاقة فوق الحميمة، هكذا اشعر انا، وربما أبالغ إن وصفتها بالصداقة، ولكنّي هكذا اشعر أيضا، ولعلّ إطارها الطبيعي والصحيح هي علاقة بين شيخ بمريديه او مرشد بحواريه. عملت الى جانبه في لجان عديدة في الجامعة، تعلمت منه الكثير والوفير. كان الاخ عثمان حسُن الظنُّ بي (قايل القبة فيها ولي) فكثيرا ما يختارني للإشراف على بعض الاعمال الفنية، او إدارة بعض البرامج الثقافية، وكنت اسعد بذلك، وسعدتُ حينما اختارني لتقديم نخبة من الشعراء والادباء والمغنين في إحد المحافل بجامعة القضارف، هم الشاعر الكبير المرحوم محمد طه القدال، والاديب اللواء السر احمد عمر، والمسيقار د. عثمان مصطفى، والمسيقار د. الماحي سليمان، فإنتابني وقتئذٍ، شعور بين الرغبة والرهبة، أما مصدر الرغبة في ان أنال هذا الشرف، واما الرهبة فكانت من خوفي من فشل مراهنة استاذي د.عثمان على شخصي. ايضا تشرفت بإتصال من قناة الشروق والتي كانت بصدد تقديم برنامج ذو طابع تفاعلي مع الجمهور في مسرح القضارف، وكان الشخص الذي حددته القناة هو الدكتور عثمان البدوي، فاعتذر بسبب مرضه شفاه الله وعافاه، وأشار إليهم إلى شخصي وإلى شخص الاخ الاستاذ عبد الماجد محمد السيد، فاعتذرت إبتداءً الى مندوب القناة وعرضت عليه مساعدته في الوصول الى الاخ الاستاذ عبد الماجد، إلا ان مندوب القناة ذكر لي حديثا هز وجداني، وخلخل اركان كياني، حينما قال إن د. عثمان البدوي قال انه يثق في شخصين يمكن ان يقوما مقامه في هذه المهمة، انت احدهم، فزاد خوفي وإضطرابي، وزادت رغبتي في الاعتذار او قل الهروب. كان يهاتفني كلما حطّت قدماه ارض الخرطوم، وكنت احرص على لقائه، ومرافقته، طيلة بقائه في الخرطوم، ومن خلال هذه المرافقة، تعرفت على عدد كبير من النجوم والاعلام، في مجال الفن، والموسيقى، والغناء، والمسرح، والكُتّاب، وكثير من المثقفين، بل كان د. عثمان يشكل رقاع الدعوة التي نلج بها الى المحافل الثقافية، فما ان تُذكر القضارف إلا وذكر د.عثمان البدوي، عندها تفتح لنا كل الابواب، ابواب الدور، وابواب الصدور، فيُحتفى بنا أيما إحتفاء، ويحدثوننا عن د.عثمان حديث العارفين، بإمتنان ومعرفة عميقة، وكأنهم يتحدثون عن شخص آخر غير الذي نجالسه، فعندها نستيقن اننا مازلنا في الفصل الاول من كتاب حياة د.عثمان الأدبية والثقافية، وستظل هذه هي الحقيقة المرة.
الخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُه وَالسّيفُ وَالرّمحُ
والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ.
رافقت د.عثمان في عام من اعوام الله المديدة الى الاراضي المقدسة، لاداء شعيرة العمرة في شهر رمضان المبارك، فكان يقضي جُلَّ وقته عبادة وتبتلا، وكنا ننتظر وجبة العشاء فنتحلق حوله ليحكي المواقف الطريفة الاتي حدثت خلال اليوم فيزداد الطام طعام. غادرنا مكة الى مدينة الهدى وانخنا مطايا ارواحنا المتعطشة للسلام على الحبيب المصطفى وإلى التمرق في رحاب المسجد النبوي. مشهد مازال يَعلَقُ بذهني، ففي إحدى الزيارات الى شيخنا عثمان الازرق حفظه والذي تزامنت زيارتنا الى المدينة مع وجوده فيها، حيث ذهبنا إلى زيارته وأثناء تواجدنا في كنفه قرأ د. عثمان علينا جزءا من قصيدة محمد المهدي المجذوب في مدح الحبيب المصطفى فبكى أثناء القراءة وابكى الحاضرين ولم يستطع إكمال القصيدة.
تألّمنا بل صدمنا بإصابة الاخ د. عثمان البدوي بمرض عضال، حال بينتا وبين ما نشتهي من مجالسته، ومؤانسته. بالرغم من إشتداد الم المرض عليه إلا ان باب دياره ظلّ مشرعا لاحبابه، بل ظلّ باذلا نفسه لمؤانستهم، والرد على تساؤلاتهم، والمساهمة في استشاراتهم. سيظل د.عثمان البدوي رمزا شامخا فينا كشموخ النخل، لم ولن ينال منه المرض، ولن ينكسر لجبروت المعاناة، بل سيزداد يقينه وعزيمته قوة، ليستمر عطاءه ونشاطه ودفقه العلمي، والادبي، والإنساني، الذي تشهده صفحته على الفيس بوك.
إذا المرءُ لم يَشكُرْ قليلًا أصابه
فليس له عِندَ الكثيرِ شُكورُ
ومن يَشكُرِ المخلوقَ يَشكُرْ لرَبِّه
ومن يَكفُرِ المخلوقَ فهْوَ كَفورُ