ظل الكثيرون يبتهجون في كل أنحاء العالم لتجربة رواندا في توحيد أبناء الدولة بعد الصراعات المريرة والمجازر التي تولدت من صراعات التوتسي والهوتو، حيث كان جلوس الوطنين إلى جانب بعضهم في ظل الرئيس بول كاغامي ووضع حد نهائي للاقتتال والكراهية والصراع قد أدى إلى بروز أقوى دولة في تحقيق معدل نمو مذهل حير العالم كله وليس الأفارقة وحدهم. والسبب هو أنهم لجأوا لبسط الحريات وإشاعة السلام والمحبة والوئام بعد سنوات الاقتتال والاحتراب والخصومات والكراهية بين الأهالي. وقبلهم كانت تجربة جنوب إفريقيا التي دعا فيها الأب ديزموند توتو إلى جلوس الفرقاء في مؤتمرهم الدستوري الذي سمي بمؤتمر الاعترافات، وتلاوم الناس فيه بأخوية ومحبة وإصرار على تخطي صراعات الماضي وخلق جو جديد لبناء الدولة بعد أطوال فترة من سنوات استعمار الأقلية البيضاء الذي تولدت عنه سياسة التفرقة العنصرية Apartheid البغيضة. أما نحن في السوان فنريد أن نجتر هذه التجارب وإرهاصات الحرب تنبئ بنهايتها بعد قصيرة. ولا بد أن نذكر أنفسنا أن هذه فرصتنا الأخيرة لبناء هذا الوطن الذي مزقته مرارة الفرقة والكراهية قبل أن تمزقه هذه الحرب اللعينة. لا بد أن نعترف بأننا عجزنا في كثير من الأحيان أن نقدم مثل هذه التجارب الناصعة للعالم. ظللنا نتقاتل، ونتصارع، ونتجادل، ونتنافر، ونتباغض، ونتربص ببعضنا البعض حتى كدنا أن نيأس من ذواتنا. فالذين دخلوا الغابات مع إرهاصات عام 1955م ظلوا فيها يقاتلون من بقوا في الثكنات العسكرية على مدى تاريخ الاستقلال. وكانت نتيجة صراعهم المرير طوال هذه السنوات أن انشرخ الوطن إلى شقين متناحرين شمالي وجنوبي. فلا تمكن شق الجنوب الذي انفصل من بناء دولة تسر الناظرين، ولا استطاع شق الشمال الذي بقي أن يستثمر تبعات هذا الانفصال لصالح توحيد الداخل وإعادة البناء في ظل وطن أصغر حجما ظن الواهمون أنه سيكون أيسر إدارة وأسهل تطويراً وتنمية. وعندما جاء رجال الإنقاذ للحكم بشروا الناس بأنهم سيرأبون كل صدوع الوطن لأن يعرفون ما يخبؤه العدو. فتفاءل الكثيرون وتشاءم الكثيرون ولكن لا هؤلاء ظفروا بخلاص الوطن ولا أولئك وجدوا ضالتهم في توحيد الكيان المفتت. وامتلأت غابات السودان بفصائل مسلحة وصل عددها لقرابة المائتي فصيل، كلٌ منها يدعي تحرير السودان. ولكل فصيل أجندته، وسياساته، ومشروعه الخاص للدستور، وطموحاته التي لا يفصح عنها إلا في مؤتمرات الحوارات العديد. ونكتشف في نهاية المطاف أنها لا تتعدى تقسيم الثروة والسلطة في وطن لم تعد فيه ثروة ولا سلطة بفعل أبنائه غير الأوفياء. وثار الجميع على ما هو كائن واقتلعوا نظام الإنقاذ، وأعادوا الحلم القديم بتجربة إفريقية جديدة لتوحيد وتطوير الوطن تُضاف إلى تجارب رواندا وجنوب إفريقيا بعد سنوات الفساد والدمار التي استطالت. ولكن هل يا ترى نجحنا في ذلك؟ أم خذلنا العالم كله كما خذلناه في تجارب سابقات؟ تقاطرنا جميعاً نحو جوبا عاصمة الجنوب كي نضع لبنات الخلاص، ووقعنا الاتفاقات تلو الاتفاقات. ولكن قبل أن يجف المداد خرجت المظاهرات في المدن والقرى تستحث الجيش على تسلم السلطة ضد فشل المدنيين. وواكبتها مئات المواقع تؤيد هذا التوجه. وبالمقابل خرجت مظاهرات مناوئة واكبتها أيضاً مئات المواقع بالنداءات الثورية التي تدعو المدنيين لتقوية قبضتهم على السلطة ضد مطامح العسكريين الذين يريدون استعادة سطوتهم من جديد استغلالاً للظروف المؤلمة التي تعايشها البلاد. وبين هذا وذاك صدح الكثيرون بأن غياب فصيلي عبد الواحد والحلو عن توقيع اتفاق جوبا يؤكد أن لا سلام سيعم الديار، وأن نيران الاقتتال ستشتعل بمجرد وصول الفصائل الموقعة إلى الخرطوم. وتشاءم الكثيرون من مد الفترة الانتقالية لثلاث سنوات إضافية بدعوى أن ما مضى منها لم يكن مشجعاً على التمديد إن لم يكن مدعاة للاختصار. وبالمقابل هلل الكثيرون لهذا التمديد الذي سيمكنهم من فرض سياساتهم عبر الفترة الانتقالية لأنهم لن يجدوا فرصتهم إذا خاضوا غمار الانتخابات. وبين هذا وذاك ظل الحلم الوطني يراوح مكانه بين أطماع بعض أبناء الوطن والخيال الجامح لبعضهم الآخر واستحالة البناء في ظل هذا الصراع والخوف من المجهول الذي ظل قابعاً في نفوسنا منذ فجر الاستقلال. ولذلك فإننا نرفع الصوت عالياً هذه المرة ونقول: يا أهل السودان اتحدوا يرحمكم الله. إن السنوات القادمات تحتاج منا للعمل الدؤوب، وتحتاج منا إلى الحكمة، وإعمال العقل بدلاً عن التباغض والتناحر والكراهية. وعندها أن نستطيع بناء وطن جديد على أنقاض الماضي البغيض. ومزيداً من النجاحات أيها البواسل في استعادة وطننا من كيد الكائدين.