رمضان ومفاهيم السياسة الرشيدة تأملات في مدرسة الصيام – في العمق – ✍️ هشام محمود سليمان 

يطل رمضان في كل عام لا بوصفه شعيرة تعبدية فحسب بل باعتباره مدرسة لتجديد القيم وتزكية النفوس حيث تصطبغ أيامه ولياليه بسلوكيات تتجاوز البعد الشخصي إلى تشكيل منظومة أخلاقية لها انعكاساتها العميقة على المجال السياسي والاجتماعي فالصيام بما يقتضيه من ضبط للنفس وصبر على الشدائد وتكافل بين الأفراد يحمل في جوهره دروسا جوهرية لصياغة الحكم الرشيد وإدارة شؤون الدولة وفق مبادئ العدل والمساواة والمسؤولية

أ . العدل والمساواة مبدأ جوهري في الحكم الرشيد:-

إن أحد أعظم الدروس التي يرسخها رمضان هو مبدأ المساواة إذ يخضع الجميع لمنطق واحد فلا امتياز لغني على فقير ولا تفاضل بين صاحب سلطة ومستضعف

فكما يصوم الحاكم والمحكوم معا فإن الحكم الرشيد يقوم على ذات القاعدة التي تضمن عدم استئثار فئة دون أخرى بمقدّرات الدولة وهذا ما يجعل من رمضان تذكيرا سنويا بأن العدل هو حجر الزاوية في استقرار الأمم وأن اختلال هذا الميزان هو مال كل دولة تنتهج التفرقة والتمييز

ب . التكافل الاجتماعي من الإحسان إلى الإنصاف:-

يمثل التكافل في رمضان قيمة تتجاوز البعد الخيري لتلامس جوهر العدالة الاجتماعية فحينما تمتد موائد الإفطار وتتضاعف أعمال البر يبرز التساؤل هل يعقل أن يكون التكافل مجرد مبادرة فردية؟ إن الدولة الحديثة التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار السياسي لا يمكن أن تعتمد على المبادرات الموسمية بل عليها

أن تضع أنظمة اقتصادية واجتماعية تؤسس لعدالة دائمة بحيث لا يكون رمضان استثناء بل نموذجا يعمم على مدار العام عبر سياسات تحمي الفئات الهشة وتضمن توزيعا أكثر إنصافا للثروة والفرص

ج . المحاسبة والمسؤولية السياسة بوصفها التزاما أخلاقيا:-

كما أن رمضان يلزِم الصائم بمراجعة ذاته وتقييم أفعاله فإنه يذكر القادة بأن الحكم ليس امتيازا بل مسؤولية تتطلب المساءلة والمحاسبة فالحاكم العادل هو ذاك الذي يستشعر رهبة الأمانة التي يحملها ويدرك أن سلطته

ليست مطلقةبل مقيدة بإرادة الأمة وحقوقها وفي ظل أنظمة ديمقراطيةٍ حقيقية تصبح هذه القيم أكثر تجليا حيث يكون القادة خاضعين لمبدأ المحاسبة كما يخضع الصائم ليقظة ضميره في التزامه بأحكام الصيام

د . الإرادة والتغيير الشعوب بين الصبر والمطالبة بحقوقها:-

إن الصيام بما يتطلبه من قوة إرادة وتحكم في الرغبات يظهر أن الإنسان قادر على ضبط نفسه حين تكون لديه القناعة والإرادة وهذه القاعدة تنسحب على الشعوب فكما يصبر الصائم على الجوع والعطش انتظارا لفرحة الإفطار تصبر الشعوب على المحن لكنها لا تستكين للظلم والاستبداد والتاريخ حافل بالشواهد التي تؤكد أن إرادة الجماهير هي القوة المحركة للتغيير وأن الأنظمة التي تغفل هذه الحقيقة مالها إلى زوال تماما كما أن صبر الصائم لا يعني خضوعه بل انتظار اللحظة التي يستعيد فيها توازنه وحقه المشروع

ه‍ . الحوار والتسامح أفق سياسي جديد:-

رمضان هو شهر العفو والمصالحة وهو بذلك يقدم نموذجا للحل السياسي في المجتمعات التي تعاني من الانقسامات والنزاعات فالحكماء من القادة هم أولئك الذين يدركون أن الحلول المستدامة لا تكمن في الإقصاء والتهميش بل في بناء جسور الحوار وإيجاد تسويات عادلة تحقق التوازن بين مختلف القوى وكما أن رمضان يدعو الأفراد إلى الصفح والتسامح فإنه يلقي على عاتق النخب السياسية مسؤولية تبني نهج الحكمة بدلا من الصدام فالدولة التي تقوم على المصالحة والتفاهم تحقق استقرارا أعظم من تلك التي تستند إلى القهر والغلبة

و . التخطيط والانضباط الإدارة السياسية الناجحة:-

يعلمنا رمضان أن النجاح لا يتحقق بالارتجال بل بالتخطيط المحكم والانضباط الصارم فالصائم يدير يومه وفق جدول دقيق ويضبط سلوكه وفق أحكامٍ محددة وهو ما يقدم درسا بالغ الأهمية للقيادات السياسية في إدارة الدولة فالدول الناجحة ليست تلك التي تعتمد على ردود الأفعال المؤقتة بل تلك التي تمتلك رؤية استراتيجية وتضع خططا مدروسة تراعي فيها الزمن والإمكانات تماما كما يرتب الصائم يومه بين عباداته وأعماله واحتياجاته المعيشية

ز . رمضان فرصة للتجديد السياسي:-

رمضان ليس مجرد موسمٍ روحي بل هو فرصة سياسية لتجديد المفاهيم وتصحيح المسارات فهو يذكر الأفراد والمجتمعات بأن الإصلاح ممكن وأن الإرادة قادرة على تحقيق التغيير وإذا كان الإنسان يخرج من رمضان بروح أنقى وسلوكٍ أكثر انضباطا فإن الدولة والمجتمع مدعوان للاستفادة من دروس هذا الشهر في إعادة بناء أنظمتهما على أسس أكثر عدلا وإنصافا حيث يكون الحُكم تكليفا لا تشريفا والسياسة أخلاقا قبل أن

تكون صراعا على السلطة

وفي نهاية المطاف فإن رمضان يظل درسا متجددا في السياسة الرشيدة حيث يعيد التذكير بأن الحكم العادل كالعبادة الخالصة يحتاج إلى نيةٍ صادقة وإرادةٍ قوية وانضباط في السلوك وإحساس عميق بالمسؤولية تجاه الآخرين