حين استلف الشاعر عمر الطيب الدوش ذلك التشبيه وتلك الصورة الجمالية واصفا ترقب الانتقال كأنه صوت طفلة وسط اللمة” الازدحام” منسية لعله جسد هذا المعني الذي نحكي عنه في هذا المقال حيث ان تحرير رفاعة التاريخية وارتباطها بتعلم المرأة ووعيها جعل تلك الرمزية تتجسد في تلك الطفلة ، تداول ناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي السودانية مقطع فيديو مؤثر لطفلة من مدينة رفاعة ، المحررة حديثًا ، تناشد أفراد الجيش السوداني بدموعها قائلة: “ما تمشوا تخلونا… اقعدوا معانا ، ما تمشوا نهائي”. هذه العبارة، رغم بساطتها، تختصر مأساة جيل كامل عاش تجربة الحرب بكل ما فيها من خوف ورعب وانعدام للأمان . لم تكن كلماتها مجرد طلب طفولي عابر ، بل كانت شهادة إنسانية على واقع قاسٍ ، تُذكِّر العالم بحجم الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال بواسطة مليشيا الدعم السريع المتمردة ، وتفرض تساؤلات جوهرية حول مدى التزام المجتمع الدولي بتعهداته لحماية الطفولة في أوقات الحرب .
كما نعلم رفاعة مدينة تاريخية ، اشتهرت بأنها مهد تعليم المرأة السودانية ، تقع في محلية شرق الجزيرة ، رمز للحضارة والتعليم في السودان . فمنها انطلقت أول مدرسة لتعليم البنات عام 1903 على يد الرائد التربوي بابكر بدري ، ومنها نهضت أجيال ساهمت في تشكيل الوعي الوطني . لكن هذه المدينة التي ظلت لعقود ملاذًا للمعرفة والسلام، تحولت بفعل الحرب إلى مدينة أشباح ، حيث عانت من الحرب منذ أكتوبر الماضي عندما اجتاحتها مليشيا الدعم السريع ، في ظل تداعيات انشقاق قائدها المحلي” كيكل ” وانضمامه إلى الجيش السوداني . في غضون أيام قليلة، تبدّلت ملامح المدينة وأصبحت مدارسها خاوية ، شوارعها مهجورة ، وأطفالها لا يعرفون سوى لغة الرعب والخوف . لكنّ المأساة في رفاعة لا تتعلق فقط بدمار المباني أو فقدان الممتلكات ، بل تمتد إلى ما هو أعمق من ذلك : تآكل الإحساس بالأمان لدى الأطفال ، الذين أصبحوا أكثر وعيًا بخطورة الحرب من إدراكهم لبراءة الطفولة .
لذلك يمكننا القول أن ما وثّقه الفيديو ليس مجرد لحظة عاطفية مؤثرة ، بل هو إدانة واضحة للانتهاكات الجسيمة التي ظلت تقوم بها مليشيا الدعم السريع لحقوق الإنسان ، خاصة في ما يتعلق بحقوق الأطفال أثناء هذه الحرب . غير مكترثة للاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية الأطفال في أوقات الحرب . كما نعلم فإن اتفاقية حقوق الطفل (1989): تنص على أن للأطفال الحق في الحماية من العنف والنزاعات المسلحة . بالإضافة الي البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة (2000): يحظر تجنيد الأطفال أو استخدامهم في النزاعات ، ويؤكد على ضرورة توفير الحماية لهم في مناطق الصراعات . كذلك اتفاقيات جنيف (1949) والبروتوكولات الإضافية (1977) تلزم أطراف النزاعات المسلحة بحماية المدنيين ، وخاصة الفئات الأكثر ضعفًا مثل الأطفال.
رغم هذه التعهدات الدولية ، يكشف المشهد في السودان عن فجوة خطيرة بين النصوص القانونية والواقع الميداني ، حيث أصبح الأطفال أول الضحايا وآخر من يحظى بالاهتمام . فمشاعر الطفلة في الفيديو لم تكن مجرد حالة فردية ، بل تعكس المعاناة الجماعية لآلاف الأطفال الذين عاشوا تجربة الحرب بكل قسوتها . لذلك يجب أن لا يكون تحرير المدن السودانية من سيطرة المليشيات مجرد انتصارا عسكريا ، بل يجب أن يكون منعطفًا حقيقيًا في مسار إعادة بناء المجتمع السوداني . فإذا كان الجيش قد استعاد السيطرة على الأرض ، فإن التحدي الأكبر هو استعادة الطفولة السودانية لحقوقها الطبيعية في التعليم ، والاستقرار النفسي ، والشعور بالأمان .
هنا تبرز مسؤولية الدولة السودانية ، ليس فقط في تأمين المدن المحررة ، ولكن في إعادة تأهيل الأطفال نفسيًا واجتماعيًا من خلال : برنامج دعم نفسي مكثفة لمساعدة الأطفال على تجاوز الصدمات التي تعرضوا لها . كذلك في إعادة تأهيل المدارس وخلق بيئة تعليمية آمنة تعيد للأطفال إحساسهم بالحياة الطبيعية . كما تفعل الآن بعض المؤسسات التربوية في ولاية الخرطوم بجانب ما تقوم به وزارة التربية والتعليم بالولاية .
في جانب آخر يجب أن نعلم أن المسؤولية لا تقع على السودان وحده ، بل هي اختبارا حقيقيا لمدى جدية المجتمع الدولي في تنفيذ التزاماته بحماية الطفولة في مناطق النزاع . عبر الدعم المباشر للمؤسسات الوطنية أو المنظمات الإنسانية العاملة في المجال والتي لها رصيد جيد من الخبرة الوطنية من خلال تجارب سابقة إبان الحرب في جنوب السودان ، فالصمت الدولي أمام معاناة الأطفال السودانيين ليس مجرد تقصير ، بل هو ربما تواطؤ غير مباشر مع الداعمين الإقليميين لهذه الحرب أو مع مليشيا الدعم السريع التي تمارس هذه الانتهاكات .
اليوم وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن السودان يوشك على طي صفحة حالكة من تاريخه الحديث ، حيث تلوح في الأفق معالم نهاية وجود المليشيا في البلاد . فمع تقدم القوات المسلحة وحلفائها من الأجهزة الأمنية والقوى المجتمعية ، في جميع المحاور يقترب موعد العودة الطوعية للنازحين الذين يحتاجون إلى كافة الخدمات علي رأسها الأمن ، وطي حقبة من الفوضى والدمار التي عانى السودانيون منها . ومع كل نصر يتحقق ، تتعزز قناعة السودانيون بأن أمنهم واستقرارهم لا يمكن أن يكون رهينة لمليشيات انقلابية خارجة عن القانون ، بل هو نتاج دولة مستقرة تستند إلى مؤسسات قوية ، قادرة على فرض سيادتها وضمان حقوق مواطنيها بمختلف سحناتهم وانتمائهم السياسية والقبلية . وفي النهاية ، يظل مستقبل السودان وأطفاله مرهونًا بقدرته على استعادة الأمن وتحقيق السلام .
دمتم بخير وعافية .
الإثنين 3 فبراير 2025 م. [email protected]