{عَبَسَ وَتَوَلَّى}، فِيْمَ؟ ولِماذا؟ وكَيف كان كنه عتاب الله؟! ✍️ عادل عسوم
ظللت أتوقف كثيرا بين يدي عتاب الله جل في علاه في هذه السورة، فأعمد إلى التفاسير لأتبين فحواه ومقاصده؛ فلا أجد ما يريح بالي ويجيبني على تساؤلي!.
نعم لقد أجاد العلماء جزاهم الله خيرا في توصيف الغاية وماترشد إليه الآيات في ابتدار هذه السورة الكريمة، لكن والحق أقول؛ كم كنت أجد وقع العتاب -في نفسي- قاسيا في حق نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم (اتكاء على ماذكره المفسرون)، ولكن شاء الله أن أجد بغيتي في الذي قاله الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي جزاه الله خيرا، لا أزكيه على الله؛ لكنني أحسبه- والله حسيبه- قد فتح الله عليه فتحا، وأنه أوتي نورا وبصيرة وتوفيقا أعانه على فهم مراد الله في ثنايا هذه الآيات الكريمات.
لا أطيل عليكم، فهذا ما أفاء به الله، وما اجراه على لسان شيخنا الوقور، في شأن تفسير عتب الله، (وعذرا لطول المنقول، لكنني أنصح بقراءته إلى ختامه لمن يحرص على الفائدة):
قال تعالى:
{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)}
أيها الأخوة الكرام لابد من حقيقة بين أيديكم، هي أن الوصف شيء و التقييم شيء آخر، أقول لكم: فلان قعد أو وقف أنا لا أقيِّم عمله إنما أصف عمله، أما لو قلت: قعد مخطئا أو قعد تائها أو أخطأ حينما قعد أنا قيَّمت عمله، و فرق بين التقييم و الوصف، فربنا سبحانه و تعالى يصف، قال تعالى:
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4).
و لا يقيِّم، والشيء الثاني لو أن لهذا المسجد بابين وليس هناك ما يمنع أن تخرج من أحدهما و من أي باب خرج لست عاصيا، أما حينما أصدر أمرا: ممنوع الخروج من هذا الباب، وخرجت منه، فعندئذ تكون عاصيا، متى تكون المعصية؟ بعد التكليف، أما قبل التكليف ليست هناك معصية، هذه حقيقة ثانية، الحقيقة الأولى الوصف شيء و التقييم شيء آخر والله سبحانه وتعالى في هذه السورة وصف ولم يقيِّم و الحقيقة الثانية لا يمكن أن تكون عاصيا إلا بعد التمثيل أما قبل التكليف لست عاصيا، من أنت إذا؟ أنت مجتهد، و المجتهد بين الأجر و الأجرين، إن أصاب فله أجران و إن أخطأ فله أجر، هذه الحقيقة الثانية، و الحقيقة الثالثة هناك عتب لك و عتب عليك، وفرق كبير بينهما، قد يجد الأب ابنه يسهر حتى ساعة متأخرة من الليل يدرس فيعتب له لا عليه، ارفق بنفسك يا بني، وإذا كان هناك تعنيتا ليس معناه أن الابن أخطأ بل هو يبالغ في الدراسة، فهناك عتب لك وهناك عتب عليك، أما لو رآه يلعب بالنرد و الفحص على الأبواب يعنفه، لكن هذا التعنيت غير هذا التعنيت، الأول يعتب له والثاني يعتب عليه،هذه الحقيقة الثالثة، و الحقيقة الرابعة هي أن النبي صلى الله عليه وسلم عنده رؤوس قريش، جاءه أحد أصحابه، وبربكم و نحن في هذا الزمان لو أن رجلا داعية إلى الله عز وجل أيهما أهون عليه وأمتع له أن يجلس مع إخوانه المحبين الصادقين المتفانين في خدمته أم مع عدو لدود وخصم عنيد كافر ملحد أيهما أهون؟ الأهون أن تجلس مع إخوانك المحبين المخلصين المعظمين، النبي كان بين خيارين، بين أن يجلس مع أحد أصحابه وهو ابن أم مكتوم الأعمى و بين أن يجلس مع خصم عنيد شرس منكر، النبي عليه الصلاة والسلام اجتهد أنه إذا جلس مع هذا الخصم الشرس المنكر و أخذ الله بيده و اهتدى اهتدت معه قريش، لأن الأمة برؤوسها وبوجهائها و زعمائها و بأغنيائها، فالأقوياء إذا سلكوا سبيلا تبعه الآخرون، هذا اجتهاد النبي، هل هناك أمر و نهي و تكليف؟ النبي اختار الطريق الأصعب اختار أن يجلس مع الأشرس مع العنيد فلعل هؤلاء التائهون الشاردون يهتدون، الشيء الرابع أن الله تعالى كان من الممكن أن لا تقع هذه الحادثة، فلماذا وقعت؟ وجاء الوحي يلفت نظر النبي إلى أن هذا الرجل الذي ترجو منه الخير أنا أعرفه و أنت لا تعرفه، لا رجوى منه، و لا خير فيه و لا أمل معه، لا تعلق على لقاءك معه أيَّة فائدة، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، فربنا عز وجل لفت نظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى أنه لا جدوى من هذا الرجل فاجلس مع ابن أم مكتوم، فماذا فعل النبي ؟ النبي كان في أعلى درجات الكمال وفي أعلى، درجات الاجتهاد و كان محبا مخلصا واختار الطريق الأصعب واختار أن يجلس مع الإنسان العنيد، ما فعل شيئا، و الله تعالى ما قيَّم له عمله إلا أنه وصف له عمله، سأضرب لكم مثلا ؛ لو فرضنا أن واحدا منكم له قريب ملحد و يجلس معه، وفي جلسة حامية و نقاش حامي الوطيس دخل ابنه الصغير في الصف الرابع و قال له: حلَّلي هذه المسألة يا أبي فقال له: اذهب لا وقت لي، إنه في نقاش حاد يتوقف عليه إسلام القريب وهدايته، و من هو ابن أم مكتوم؟ أحد أصحاب رسول الله، في أي وقت يمكن أن يلتقي به، فالنبي ما فعل شيئا، هذا الذي يتهمه الناس به أن الله عاتبه، عتب له ولم يعتب عليه ووصف عمله و لم يقيِّمه، ولا معصية قبل التكليف، والنبي اجتهد واختار الطريق الأصعب الذي يضمن هداية كل قريش، ولكن الله بيَّن أن مقام النبوة شيء و مقام الألوهية شيء آخر، النبي لا يعلم و الله يعلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام على علو مقامه وعلى أنه سيد الخلق و حبيب الحق جاءه وفد طلب منه سبعين قارئا للقرآن ليعلمهم القرآن، فأعطاهم سبعين و في الطريق ذبحوهم، لِمَ لمْ يعلم؟ هذا شأن البشر لا يعلمون، لا يعلم إلا أن يُعلَم، قال تعالى:
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 216)
سورة البقرة
النقطة الخامسة أن الله أراد أن يبين أن العبد عبد و أن الرب رب و أن مقام النبوة مقام و أن مقام الألوهية مقام آخر، قال تعالى: عبس و تولى..تلهى وصف الله عز وجل اجتهاد النبي الذي لم يكن في معصية وليس هناك عتب عليه بل عتب له وهو وصف وليس هناك تقييم والله عز وجل يعلم والنبي لا يعلم وهذا مقام النبوة وذاك مقام الألوهية، هذا كل إشكال هذه السورة.
الشيء الآخر أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيِّن أن هذا الوحي هو أصل الدين، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِي اللَّهم عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْي).
رواه البخاري.
لِماذا ضمه هذه الضمات الثلاث ؟ لئلا يتوهم متوهم أن الوحي منام هو في أعلى درجات اليقظة، ضمه وأرسله وخاف عليه الصلاة و السلام و حينما تحدث الناس ما تحدثوا عن السيدة عائشة في حديث الإفك لو أن الوحي بيد النبي يملك مجيئه وإرساله بعد ساعة تنزل آية تبرئ السيدة عائشة، ولكن تأخر الوحي في حديث الإفك ثلاثين يوما، لا يملك جلبا له ولا دفعا، فديننا بكلياته وحي السماء إلى الأرض، فلذلك موضوع الوحي واضح، لو أن الوحي من عند النبي لما تكلم بهذه الآيات، وهنا أبلغ من ذلك، ماذا قال عنه الكفار قالوا عنه ساحر و مجنون شاعر وكاهن، السؤال الدقيق الآن ؛ لماذا أثبت الله هذه التهم في الوحي ؟ أصبحت قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ولو كان الوحي من عند النبي لما ذكر عن نفسه هذه التهم، وما قال عن نفسه إنه مجنون ولا ساحر ولا كاهن ولا شاعر، لكن هناك آلاف الأدلة تبين أن هذا الوحي مستقل عن النبي، النبي على علو مقامه لا يملك له جلبا و لا دفعا، لا يعلم، و سأله مرة إنسانٌ فقال له: غدا أجيبك، معتمدا على أن الوحي سيأتيه غدا، فلم يأته، فهذا مقام النبوة، فهناك فرق بين مقام النبوة ومقام الألوهية، والشيء الثاني أن الله أراد أن يصف لا أن يحكم عليه، و إن كان هناك من عتب فهو عتب له لا عليه، و النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يكون مخالفا لأنه لا معصية قبل التكليف.
هذه بعض النقاط التي يمكن أن تقال في هذه السورة الكريمة، ونحن بالمقابل المؤمن الصادق المخلص من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، والله عز وجل يعلم أن هذا الذي تعلِّق عليه الآمال لا خير فيه ولا جدوى منه ولا تتعب نفسك معه، ووقتك أثمن من أن تجلس معه، فاجلس مع هذا المنيب الصادق لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى.