في زيارتنا أمس ضمن مجموعة من الإعلاميين لمستشفى النو التعليمي بمحلية كرري كان المشهد مثيرًا للقلق : مستشفى مكتظ بالمرضى ، لم تعد المساحات كافية ، فاضطرت الإدارة لإنشاء عنابر مؤقتة من الخيام لاستيعاب الأعداد المتزايدة . رغم وجود مستشفيان آخران، “الوالدين” و”الجزيرة أسلانج”، اللذان يشهدان أيضًا ضغطًا هائلًا بسبب تدفق المرضي و المصابين ، إلا أن مستشفى “النو” يظل الوحيد للمواطنين في المحلية المتأثرة بالقصف العشوائي من قبل مليشيا الدعم السريع .
رغم هذه الظروف ، يواصل الكادر الطبي العمل إلى جانب المتطوعين ، بذل جهود مضاعفة لتقديم العلاج والإنقاذ في ظل بنية تحتية مدمرة ونقص في الموارد . هذا المشهد يبرز التحديات الصحية الصعبة التي يواجها السودان حيث تعمدت المليشيا تدمير المؤسسات الصحية والعلاجية ما نتج عنه إنهيار شبه تام للقطاع .
هذه الزيارة جعلتنا نطرح تساؤلات حول الوضع الصحي في السودان ، الذي يعاني من هذه الحرب التي دخلت عامها الثاني منذ أبريل 2023. تظهر الأوضاع الصحية كأحد أبرز أوجه الأزمة الإنسانية التي يعيشها السودانيين . إن التحديات الاستراتيجية التي تواجه وزارة الصحة تتطلب استجابة عاجلة من المجتمع الدولي والإقليمي ، ليس فقط لتقديم الدعم العاجل ، بل أيضًا لإعادة بناء النظام الصحي وضمان استدامة الخدمات في المستقبل .
بالرغم من هذه التحديات ، نجحت وزارة الصحة بولاية الخرطوم في تحقيق إنجازات نوعية ، مثل إعادة تأهيل 20 ماكينة غسيل كلى بعد تعرضها لتخريب الممنهج من قبل المليشيا . وأكد د. فتح الرحمن محمد الأمين مدير عام وزارة الصحة بالولاية أن هذا العمل يعكس إصرار العاملين على مواجهة المهددات ودعم استمرارية الخدمات الصحية في المناطق الآمنة ، وذلك بالتوازي مع جهود القوات المسلحة لاستعادة الاستقرار . وتحولت الوزارة إلى خلية عمل مستمرة لصيانة المعدات الطبية التي تُستجلب من المناطق المحررة ، حيث يتم صيانتها وإعادة تشغيلها لتلبية احتياجات المرضى ، خصوصًا مرضى الفشل الكلوي الذين يعانون من نقص الرعاية الصحية .
قدرت وزارة الصحة خسائر القطاع المباشرة بنحو 11 مليار دولار ، نتيجة تدمير المستشفيات العامة والخاصة ونهب المعدات الطبية والإمدادات الدوائية . ووفقًا لتقارير وزارة الصحة الاتحادية فإن 75% من المستشفيات إما دُمّرت كليًا أو تعمل بقدرات جزئية. هذا الوضع أدى إلى ارتفاع الضغط على المرافق الصحية بالمناطق الآمنة ، التي تحاول جاهدة استيعاب الأعداد المتزايدة من النازحين والمرضى . في المناطق الخاضعة لسيطرة المليشيا حيث الوضع الصحي مأساوي .
العديد من المؤسسات الصحية إما دُمّرت أو تحولت إلى مراكز تخدم الميليشيا فقط ، ما أدى إلى تفاقم معاناة السكان . ولجأت بعض المستشفيات إلى حلول طارئة، مثل إجراء العمليات الجراحية تحت أضواء الهواتف ، كما حدث في الفاشر ، ما يعكس حجم الأزمة الإنسانية. جاءت زيارة المدير العام لمنظمة الصحة العالمية إلى بورتسودان أواخر العام الماضي والتي سلطت الضوء على الاحتياجات الملحة للنظام الصحي. وحدث خلالها التزامات من المنظمة الدولية بإعادة تأهيل جانب من القطاع الصحي يحتاج الأمر للمتابعة للإيفاء بهذه التعهدات .
والاستفادة من تجارب الدول التي أعادت بناء الكوادر و الأنظمة الصحية بعد الحروب . مثال ذلك دولة رواندا : التي قدمت نموذجاً جيدا في إعادة البناء من الصفر بعد الحرب التي خلفت نظامًا صحيًا منهارًا ، اتبعت رواندا نهجًا قائمًا على التكامل بين الحكومة والمجتمع ، حيث ساهمت المجتمعات المحلية في إعادة تأهيل المرافق الصحية من خلال مبادرات مجتمعية مدعومة دوليًا .
كذلك في العراق تمت الاستفادة من التمويل الدولي لإعادة بناء البنيه التحتية الصحية ، من خلال تضامن المجتمع مع الحكومة مع المنظمة الدولية ، أيضآ في لبنان كان للقطاع الخاص دور بارز في تعويض نقص الخدمات العامة ، حيث أُعيد بناء العديد من المستشفيات من خلال شراكات بين القطاعين العام والخاص ، مع إشراف حكومي لضمان جودة الخدمات .
على غرار التجارب الدولية ، يمكن للمجتمع السوداني أن يكون شريكًا محوريًا في إعادة بناء القطاع الصحي عبر المبادرات المحلية التي يقودها القطاع الخاص بما يظهر قدرة المجتمعات السودانية على التكيف مع الواقع الجديد في اليوم التالي من الحرب . مع أهمية تبني استراتيجية سودانية لإعادة بناء النظام الصحي ، بالتركيز على الرعاية الصحية الأولية حيث تعاني المناطق الريفية في السودان من نقص الخدمات الصحية حتى قبل الحرب .
كذاك بالإمكان إنشاء شبكة وطنية متكاملة لإعادة توزيع المرافق الصحية بشكل عادل بين الولايات لتقليل الضغط على العاصمة الخرطوم . تضمن تكامل الخدمات بين المستشفيات الكبرى ومراكز الرعاية الأولية في الولايات ، بما يعزز الوصول العادل للخدمات الصحية.
كما يجب أن نعمل على ضمان استدامة الجهود ، باعتماد آليات رقابية تضمن الشفافية في استخدام الموارد . كذاك من المهم أن نعمل علي بناء نظام طوارئ وطني للتعامل مع الأزمات الصحية والكوارث ، مع توفير مخزون استراتيجي من الأدوية والمعدات الطبية وتدريب فرق الاستجابة السريعة . أيضا يحب أن نستفيد من الشراكات الإقليمية والدولية .
كذلك يمكن توظيف العقوبات الدولية المفروضة على مليشيا الدعم السريع وشركاتها المجمدة لإنشاء صندوق وطني لدعم إعادة الإعمار ، وتعويض الضحايا . إن مستقبل القطاع الصحي السوداني يكمن في تبني استراتيجيات جادة لإعادة البناء ، من خلال : إنشاء آليات وطنية و دولية للتمويل لضمان وصول الموارد إلى المناطق الأكثر تضررًا.
عليه وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن إعادة تأهيل القطاع الصحي في السودان يتطلب رؤية استراتيجية طويلة الأمد تُوازن بين الاستجابة السريعة للأزمات والتخطيط المستدام لبناء نظام صحي فعال اعتمادا على دور المجتمع والمنظمات الإقليمية والدولية والقطاع الخاص ، كذلك من المهم توفر الإرادة الوطنية التي تضع الصحة العامة كأولوية وطنية ، وتجعلها جسرًا نحو السلام والتنمية المستدامة .
دمتم بخير وعافية .
الأربعاء 15 يناير 2025م [email protected]