الكابلي .. علامة ( غنائية) مسجلة .. عالية الجودة ؛ مزيدة ومنقحة ..هو الوحيد بين قليلين ممن يلزمك أن تمسك بيدك ( دكشنري فصيح / عامي ) أو تستعين بصديق( بروف) لتفهم أو تترجم بعض مفردات أغانيه الباذخة الموغلة في فصاحتها أو عاميتها .
هو بطل شباك تذاكر الصفوة ؛ لم يصعد يومًا مسرحا نزولا للقاعدة المتردية السقيمة: الجمهور عاوز كده ..
بل تطلع دائما ليغني أو يحاضر بإنجليزية جزلة أو عربية فخيمة لصفوة القوم وأصفياء الذائقة فيدهشهم ويمتعهم ويشحنهم بالعافية حتى تمامها.
تجري ألحانه ؛ ندية روية ، لتستقر هناك عند أصحاب الحاسة السادسة فما فوقها ، حتى لكأن بك سُكر وما بك سُكر ؛ متأثرا هنا بالثراء الفكري الذي تمتع به والده حيث كان يحفظ بعض أعمال شكسبير عن ظهر قلب .
تقول ديباجته إنه من مواليد بورتسودان بالعام ١٩٣٢م ؛ من جذور تعود إلى مدينة كابل الأفغانية لعائلة والده عبد العزيز محمد الكابلي ومن أصول تعود إلى مكة المكرمة ومن ثم إلى المغرب والعودة إلى السودان تنقلا بين القضارف والقلابات وكسلا لأسرة والدته السيدة صفية الشريف أحمد محمد نور زروق مؤسس الخلاوى القرآنية .
درس الكابلي وتخرج في كلية التجارة الثانوية الصغرى بأم درمان ، وعمل مفتشًا إداريا بالمصلحة القضائية حتى وصل إلى كبير مفتشي المحاكم.
أولى نتاجاته الإبداعية تأليفا وتلحينا هي أغنية ( يا زاهية) التي أهداها للفنان عبد العزيز محمد داؤود ملك ومكتشف أوركسترا ( الكبريتة) .
ثم عكف بعدها على بناء مشروعه الفني و الجمالي لتحقيق رؤيته الخاصة وهي إثراء الوجدان السوداني والعربي وصولا به إلى التشذيب والتهذيب الإبداعي والسلوكي المأمول .
وهو ما عبر عنه في لقاءاته مع إذاعة (بي بي سي) وفي كتابه ( ألحان لا ألغام) الذي نشر بأمريكا ؛ و قد منحته جامعتا السودان ٢٠٠٧م و نيالا ٢٠٠٢م الدكتوراة الفخرية في الآداب إعترافا بجهده الوفير للتوثيق في مجالات الأدب العربي والتراث السوداني .
لم يكن الكابلي مجرد فنان ؛ بل هو مجموعة أفذاذ مبذولة في نغم مستنير يسري فيك حتى يعلوك فيتملكك .. ففيه من وردي وردة ومن الباشكاتب نفحة ومن العميد غنة ومن عثمان حسين لمحة كما أن الحوت حاضر فيه بقوة ..
يشدو بصوته الفخيم على طبقات الأنغام العشر… ثم يسمو ويهبط في تمام إنسجام ووئام .
والكابلي ؛ لا يزال صاحب إختيارات عويصة عصية التطويع على غيره ؛ فتح ديوان العرب والتقط منه الدرر الغوالي ؛ أراك عصي الدمع لأبي فراس الحمداني .. وامطرت لؤلؤا ( نالت على يدها) ليزيد بن معاوية .
حتى تكاد تحسبه قد بْعث في عهد هارون الرشيد .. يجول بصوته الرخيم مختالا بين ردهات مجلسه الرفيع الذي لا يرتاده إلا الحذاق النوابغ ؛ فمن لي بهارون جديد لينزل فارسنا منزلته الذي تأهل لها بكل الجدارة والغزارة .
لكنه ما تخطته النياشين والأوسمة الرفيعة فقد كرمته الجزائر التي مجد ثورتها ونضال شعبها بوشاح المجاهدين ؛ الذي توجه به الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ضمن مهرجان الجزائر عاصمة للثقافة العربية ، و إختارته الأمم المتحدة سفيرا للإنسانية .
كما صافحه الرئيس عبد الناصر خلال زيارته للخرطوم عام ٦٠ م . . وأدى أمامه رائعة تاج السر الحسن ( آسيا وإفريقيا) .. وهنأته أم كلثوم على تفرده وغنائيته الطليقة عند زيارتها للسودان عام ٦٧م .
لن يأخذك العجب حين ترى الكابلي يقطع الفيافي قاصدًا دار جعل ومن حولهم ليكرع قهوة الصباح البكري والتني في حضرة المك نمر و يجاري فرسان القبائل وحكاماتها في مجادعاتهم ومحاوراتهم الشعرية الغميسة فيخرج لنا بروائع ما مثلهاروائع منها : ما هو الفافنوس لبنونة بنت المك نمر ؛ وعلي ( فرتيقة أم لبوس ) وخال فاطنة والدود قرقر والحسن صاقعة النجم.
وتمتع الكابلي بحس صوفي شفيف ؛ وطوْف بنا عاليا بأنشودة ليلة المولد للمجذوب ومدحة رب العباد ( من تأليفه) و(جدد وضوكا ) للشيخ البرعي الذي كثيرا ما كان يترنم في خلواته برائعة كابلي شذى زهر .
ويعد بطلنا من بين الرواد الذين أثروا مكتبة الأغنية السودانية تأليفا وتلحينا ؛ ومما كتبه الكابلي الشاعر : زينة وعاجباني .. سكر سكر .. فتاة اليوم والغد ..نشيد فلسطين.. ياقمر دورين ..ياهاجر .. كنت في حفلة ليلة..حبك للناس وليس في الأمر عجب .
كما أهدى بعض أعماله لزملائه المبدعين منها مرسال الشوق لعركي وبريدك والريدة ظاهرة في عيني لترباس.
لم يكترث كابلي للسياسة ولم ينشط فيها وإن كان يتحدث بأنه ناصري الهوى ، بل تمظهرت روائعه في الغناء للوطن الكبير ولرجاله غير المخدوشة سيرهم ، كما غنى لحركات التحرر العربي والإقليمي ..
هاجر للسعودية عام ٧٨ م وعاد منها في ٨١م وقال حينها : كيف أهنأ والناس حولي جوعى ؟ ثم ها هو يغادر مجددا في سفر بعيد إلى أمريكا.. فهل يعود من يستحق بإمتياز من نسميه ( فنان العرب الأول)؟ .
نعم فإن السعودي محمد عبده الذي يْنادى ( تجاوزا) بفنان العرب لن يكون بوسعه أن يباري أو يجاري الكابلي .. وإلا فلينشر كتابه لنرى .
حلٌفتك يا حمدوك .
تشوف لينا موضوع الكابلي :
ترجٌعوا وتربعوا في القمة ..
لأنو الزول ده .. بصراحة.. أمير عليا وعلى قلبي الكبير
** نعيد نشرها لمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل المبدع الرمز على قبره شآبيب الرحمة والمغفرة