وما موتُ محمدٍ بموتِ واحد ولكنه بنيان قوم تهدم.
في مثل هذا اليوم من الشهر الماضي ذهب عنّا دونما وداعٍ، الحبيب الشقيق محمد الهاشمي الذي توفيَ صبيحة يوم الخميس السابع من نوفمبر 2024م. مات محمد، وبموته يكون قد إنطفأ قنديل من الحكمة والحنكة، وذهب مثالا من الإباء والسؤدد، وفارق رمزا لطيب الجوهر واناقة المظر، ونأي عنوان من حلاوة الأُنس وطلاوة السمر، وإنطمر ينبوعا من الشفقة الحميمة، والوداد الرؤوف. مات محمد وقد ترك جرحا عميقا، وحزنا مديدا، وفراغا متشاسعا من الحسرة والدجن، واللوعة والشجن، والوحشة والالم. فاضت اقلام أصدقاء محمد واخدانه، بمداد رصين وحزين، تناولوا من خلاله طيب معشره، ونبل مواقفه، وصدق إخاءه، وفيض حبه، فبمثل ما سكبوا عبراتهم الهميلة حزنا وألما على فراقه، إنهملت عباراتهم الدامعة الحزينة، تمجيدا وثناء لمآثره حيث حملت كتاباتهم كثير من القيم السمحاء التي كان يتمتع بها محمد مثل الود والإخاء، والصفاء والنقاء، لم يستبقوا شيئا من سيرته العطرة. وددت ألا تفوتني غافلة المحبين والمخلصين من اصدقائه الذين فاضت اقلامهم بالوفاء والحنين للفقيد، محاولا اللحاق بركب الاوفياء رغم قلة الزاد وفقر المداد، حيث كان محمد بمثابة صديق حميم، ومستشار امين, اما فجيعتي فيه كشقيق، فما زال حزن الفراق يحكم قبضته على وجداني، فما زالت العين دامعة، والقصة عالقة، ووجع الفراق الاسيف يشتد بلا رحمة ولا رأفة. كان محمد هو المثال الذي اقتدينا به في الوعي والاستنارة والتحضر والتمدن والثقافة والتحصيل الاكاديمي, فكان من المتعلمين القلائل الذي ولجوا الى رحاب مدرسة حنتوب الجميلة في سنيّ مجدها الأول، ثم كان من القلّة التي نالت شرف الإنتماء لجامعة الخرطوم في قمة مجدها وزهوها، كان وجيها في سمته، انيقا في مظهره، رائعا في تعامله، حصيفا ذكيّا في لغته، تجذبك شخصيته بوقارها وهيبتها، يتمتع بكارزمة طاغية وساحرة، تستطيع ان تسيطر على كل ارجاء المكان حيثما وجد، وتجذب انتباه الآخرين طوعا وقسرا، وتلهمهم معاني التفاني والتواضع والزهد. مهذب في حديثه, يزن عباراته بدقة، يعتد برأيه ولا يقدس رؤيته. يتمتع الحبيب محمد بعلاقات اجتماعية واسعة، إذ كان يمتلك فنون صنعها، وادوات المحافظة عليها، فظل مخلصا وفيا لصلاته الحميمة، وفخورا بعلاقته بزملاء الطلب والدراسة، إذ كان يعطر مجالسه، ويشنف آذان سامعية بذكرياتهم النبيلة، ويبتهج حين يروي بعض نوادرهم الجميلة، ومواقفهم المحرجة التي تنضح بالملاحة والطرفة، يحكي عنهم بامتاع شديد، فيجعل آذان المستمعين تعشق قبل العين رؤياهم، كان حريصا على ان التقيهم واتعرف عليهم، حيث تعرفت على كثيرٍ منهم، حيث كنت احس انني صديقهم الذي شاركهم تلك المواقف الجميلة المليحة. كان محمد وفيّا أيضا لأصدقائه الذين جمعته بهم الحياة العامة، من زملاء الوظيفة، والاغتراب، والتجارة، ومحافل السياسة. تميز محمد بعلاقات خاصة جمعت بينه وبين اقرانه واترابه وزملائه من أبناء بطحته الغراء الحواته إذ كان يُكِنُّ لهم ودا دفيقا، وإعزازا متفردا وكان اكثر وفاء وفخرا بتلك العلاقة. لا تقتصر علاقات محمد الاجتماعية على فئة عمرية محددة، بل كان صديقا لكل الاجيال، يتعامل مع كل جيل بافكاره ورؤاه، لا تحده فوارق عمرية، ولا تحجبه موانع فكرية. عاش محمدا معتدا بنفسه بلا خيلا، واثقا بنفسه دون إفتراء، متواضعا بسيطا، لم يغريه المال وقد بلغ من الثراء مبلغا مشهودا، حيث مارس تجارة المحاصيل، وتجارة العروض، وكان مزارعا يمتلك من الاراضي والآليات ما جعله مستحقا للدخول في فئة كبار المزارعين. لم يقهره الفقر حينما ارخى عليه سدوله، واحكم الافلاس عليه قبضته، قابل جحافل الفقر بكل صبر وجلد، لم يفزع ولم يجزع، بل ظل عفيفا شريفا مكافحا، لم تكسر كبرياءه الحاجة، ولم ينال من شموخه العسر والشظف، لم تبهرة مفاتن الحياة ومباهجها، ولم يستهويه ما تقدمه موائد الطبيعة من فتات الدنيا ولعاعها الزائل بل عاش قانعا متنزها. برز محمد كفاعل ومصلح اجتماعي في بواكير عمره بعد أن ترك الوظيفة العامة وعاد من مهجره واصبح فاعلا في ثنايا مجتمعه، حيث كان اصغر عضوا في اللجان التي تسعى لرتق النسيج الاسري والمجتمعي الناتج من تصدعات الصراعات الزوجية وقضايا الميراث والتصدي لقضايا المجتمع التي تعمل على راحته ورفاهيته. كذلك برز كسياسي حاذق، وقائد مرموق، في صفوف الحزب الاتحادي الدمقراطي، لا تفتقده مجالس شورى الحزب، ولا تتخطاه اللجان المتخصصة، ولا تتجاوزه المناصب، فصال وجال في اروقة الحزب الاتحادي، إذ كانت تربطه علاقات وثيقة بقادته على المستويين القومي والولائي, نال شرف تمثيل حزبه في اكثر من محفل سياسي ومجلس، ورث قيادة الحزب من اخيه زعيم الحزب سليمان الهاشمي، لم يكن سياسيا براغماتيا او إنتهازيا متسلطا محتكرا لقيادة الحزب، بل كان مؤمنا بتداول القيادة داخل اروقة الحزب، لا يؤمن بالتوارث، ولا ما تمارسه القيادات العتيقة من احتكار وإستفراد. كان محمد رياضيا مطبوعا، مارس كرة القدم كهاوي، وبرز فيها كإداري ماهر على مستوى إدارات الاندية والاتحاد، حيث نال شرف أن يكون أول رئيس لاتحاد كرة القدم بمدينة الحواته. من اكثر الاشياء التي جرّت على الاخ محمد كثير من المتاعب والرهق، الوضوح الشديد، والشفافية المطلقة في المواقف، لا يعرف المداهنة والتملق، ولا المخادعة والمخاتلة، فما في قلبه ينعكس تلقائيا على لسانه في لطف وسماحة، ورفق ورأفة، دون غل أو مراوغة، ولا مكر ومماذقة، لايدعي أمراً لايعرفه، ولايخفي امرا كان مقتنعا به. تميز محمد بالتغافل والتغابي عن المواقف السخيفة غير اللائقة، لكنه بالمقابل كان حاسما وحادا في المواقف المتعمدة التي تستوجب الحسم حتى يكاد يبدو عليه الانفعال والغضب. كان محمد لا يعير القيود التي يفرضها المجتمع لتأطير او قولبة ممارسات الناس والتي تتضارب مع قناعاته كثير اهتمام، بل كان يمارس حياته بالصورة التي ترضي ربه وضميره، وتلبي رغباته، ولا يجتهد في ارضاء المجتمع بالتباهي الزائف، والتفاخر الكاذب، والخوف من السنة حمقى وفضولي المجتمعات. عاش محمد ولسان حاله يردد:
وكمْ تغافلتُ عن أشياء أعرفُها
وكمْ تجاهلتُ قولاً كان يُؤذيني
وكمْ أقابلُ شخصاً من ملامحهِ
أدري يقيناً و حقّاً لا يُدانيني
وكمْ تغاضيتُ لا جُبناً ولا خوراً
هي المروءةُ من طبعي ومن ديني
جازيتُ بالطيبِ كلّ الناسِ مجتهداً
لعلَّ ربّي عن طيبي سيجزيني.
كان محمدا بارا بوالدته برا جمّا، متفانيا في ذلك، لا يبدأ يومه إلا بعد زيارتها، وإحتساء بعضا من الشاي والقهوة في رحابها، ومؤانسها، وتمكينها من التواصل مع ابنائها غير المتواجدين معها عبر هاتفه، كانت تبادلة حبا بحب، بل كانت تخصه بتلطف عميق وإصطفاء وفير. في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي تعرضت الاسرة الهاشمية لابتلاءات عظيمة وفاجعة، اصابت الانفس فذهبت بالحبيبين سليمان واحمد الهاشمي، اللذين كانا يمثلان الركائز التي تتكي عليها الأسرة في ضرّائها وسرّائها، وكانا يمثلان الغطاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تستظله وتحتمي به الأسرة، ثمّ لحق بهم متعجلا اخيهم السر في زهرة شبابه، فترك ثَلاثتِهم مساحات مترامية من الفواجع والمواجع، وفراغات متشاسعة سيطرت عليها صدمات النوازل، وهواجس الزوال والبلاء. في ظل هذه النكبات والابتلاءات، وجد محمد نفسه مرغما على التصدى لقيادة سفينة الأسرة والابحار بها في خضم تلك الانواء، فكان عليه ان يحافظ على إرث الاسرة الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، وأن يواجه جيوش الفقر والمسغبة التي احكمت قبضتها بتلابيب الاسرة، وان يُعلي راية مناصرتها والزود عن حياضها، حيث كان قَدر محمد أن يواجه هذا الوضع وحيدا، فالاقدار لم تترك له اخ، او إبنا، قادرا في ذاك الزمان على التعامل مع مثل هذه الاوضاع الإستثنائية، التي تستوجب الحكمة والتجلد، والتروي والتجمل، وذلك لادارة شأن أسرة ممتدة، يُحتمل فيها اختلاف وجهات النظر، والتباين في تقديرات المواقف، وقد حدث ذلك كثيرا، ولكن كان يقابله محمد بتسامح وتغافل، حتى تظل الاسرة متماسكة كالجسد الواحد، تشيع في ارجائها قيم التصافي والتسامح والتآلف، وقد نجح محمد في ذلك فواجه هذا الوضع بكل ثبات، لم تكسره صروف الدهر، ولم تزعزع عزيمته المحن والإحن، ولم تزده شدائد المواقف سوى نضجاً فوق نضجه، ورحابة فوق سعة صدره، فلم يكل ولم يمل رغم ما كان ينتابه من عكر وضجر، وما يواجهه من اختلاف في الرؤى وتباين في الآراء من الاجيال المتعاقبة في الاسرة، إلا أنه كان سريع الصفو والعفو، يدفع بنفسه وخبراته الطويلة في عمق عثراتهم، ويبذل عصارة فكره في خواص استشاراتهم، ويشاركهم آمالهم وآلامهم، حتى شبت واستوت اجيال من الخالفين، فشدت عضده، وآزرت وحدته, وبذلك يكون قد ترك محمد دينا ثقيلا على كاهل الأسرة يصعب الوفاء بسداده الا بالدعاء والتضرع. ظل محمد ينعى نفسه منذ اكثر من عام، كان يرى بعين العارف إقتراب اجله، وتداني رحيله، ومن فرط جهلنا، كنا نحسب حديثه شيئا من اليأس والقنوط، فكنا نرى موته بعيدا، وكان يراه قريبا، فلم يستجب لكل رجاءاتنا لعرضه على الاطباء كلما اشتد عليه المرض، ظل يرفض تلك الرجاءات في صبر وتجلد، وتَصالحَ مع الموت، مثلما تصالح مع الحياة، فاستعد لاستقبال الردى والمنون متيقنا ومؤمنا بان استقبال الموت خير من استدباره، فتعجل الى لقاء ربه راضيا ذلولا.
“يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”.
ذهب محمد إلى ربه وليس بينه وبين احد خصومة، ذهب وليس في قلبه دقينة، ذهب متساميا فوق بثه وحزنه، متغلبا على أشجانه وحسراته. بذهاب محمد تكون قد إنطوت صفحات عامره ومليئه بالمواقف النبيلة والتضحيات الجليلة وسيظل كتاب سيرته العطره مشرعا يمنحنا زاداً يعيننا في شق الدروب ومواجهة الصعاب. بغيابك ستترك فراغاً كبيراً وستترك دمعة في عين كل محب وغصة في قلب صديق.
ارقد هانئاً محمد فلك المجد والسلام والإحترام.
وما فقد الماضون مثل محمد
ولا مثله إلى يوم القيامة يُفقَد
اللهم آنس وحدته وأنزله منزلاً مباركاً، واجمعنا به في مستقر رحمتك، ودار كرامتك، في مقعد صدق، عند مليك مقتدر
0912677147