*الحياةُ رحلة مستوعبة بتقلباتها يوم جميل وآخر لا بأس به ويوم كالح السواد وفى كل الظروف تظل الحياة محطة تجمعنا بأناس لم تكن بيننا وبينهم سابق معرفة لكنهم يشكلون إضاءة وومضة فى صفحات حياتنا والذين نعرفهم فى كالح اللحظات واصعبها لا تمنحنا الظروف فرصة تقييم إنسانيهم بقدر ما أنهم يحدثونك فى صمت وسمت جميل عن سلوكهم وعن إحترامهم لذرة الإنسانية عند الآخرين ينظرون الى آدميتك ولا يهمهم من أنت وما هو موقعك يمدون بيض أياديهم فى سود ليالى الآخرين ويظل الخير والجمال جزء من طبائعهم وليس من تطبعهم لأن الطبيعة دائما فى صراع عنيف مع التطبع وتكون الغلبة فى النهاية للطبيعة وليست للتطبع فالتطبع أحيانا قد يتحالف مع النفاق أو يوقع إتفاق مع الأنانية وحب الذات وتتكشف الحقائق من دون أن تتم عملية وضع طلاء على سقف التطبع وسرعان ما تظهر حقيقة الإنسان وتنبئ الآخرين عنك وعن جلائل اعمالك أو أخبثها وتجعل المرء يقف فى الحد الفاصل ما بين الطبيعة والتطبع والتلقائية والعفوية*.
*حتى لا نذهب بعيدا فقد فُجِعنا يوم سقوط مدينة سنجة ووقتها كنت للموت أقرب من الحياة منء لحظة بداية المعركة وحتى سقوط سنجة كنت داخل رئاسة الفرقة ١٧ ومعى من الزملاء وليد وعلاء الطاهر ويوسف عركى وأنور بخارى وأنا كنت شاهدا لحظة دخول كيكل والبيشى الى الفرقة وقاموا بتصوير الفيديو عموما خرجت من سنجة فى قمة الأسى كنت أعانى من أصابة فى رجلى اليسرى لكن كانت معاناتى المعنوية فوق إحتمال طاقة البشر جراء سقوط المدينة وتفرقت بنا السبل فتحرك وليد وعلاء الدين الى داخل المدينة وتحركت أنا ويوسف عركى وأنور بخارى الى خارج المدينة ونحن نحتضن الموت أحيانا وننجو من القذائف الطائشة ومقذوف الأسلحة العشوائية وأرخى علينا الليل سدوله ووفر لنا قدرا من الحماية مكنتنا من الحركة خارج حدود المدينة وقضينا ما تبقى من تلك الليلة نزحف زحفا نتحمل على الإصابة وعلى الوجع النفسى ومن دون أن ندخل فى تفاصيل الأيام الأولى لسقوط مدينة سنجة فقد تعمق فينا الحزن وزرع فينا التلف الإحساسى وعطل حاسة الإحساس بالزمان والمكان ولا سيما أن هناك شريط تراجيدى من المأسى التى يصعب سردها والحكى عنها ويمكن القول أن الرغبة فى الحياة تصل أدنى درجاتها ويتمنى المرء الموت على مشاهدة المناظر المأساوية من دون أن يستطع تقديم شئ للضحايا ما بين قتيل وجريح ونازح إنها لعنة الحرب*.
*وبعد أربعة أيام من المعاناة والمسغبة والإصابة بعد أن فارقنا الباشمهندس مهندس عبدالرحمن الإحيمر وأسرته وأستودعناهم الله إلتقيت فتى ابنوسى يجلس القرفصاء تحت شجرة يجلس على هباب يرتدى فنيلة و(ترين سوت) نهض إلينا وسلم علينا بكل أريحية وكنت فى حاجة الى أخذ قسط من الراحة بعد أن حكم سلطان النوم على عيونى حتى ولو على شفاء جرف هار ورغبة النوم هذه أوجدتها كمية الإرهاق والحركة حتى انها أنستنى الإصابة جلب لنا هذا الفتى (جك) ماء وأكتشفت أن الجوع يقف عقبة فى طريق شرب الماء وأكتفيت منها بجرعة واحدة فقط ثم ذهب وأحضر رغيفا وبعضا من الطحنية فتناولتها ونمت مكانى*.
*بعد أن صحوت من نومى عرفنى هذا الفتى بنفسه إنه جمعة مينيال مورينق ضابط إدارى مدير أسواق محاصيل محلية السوكى إضطرته الحرب أن يغادر السوكى وكلما إلتهمت الثوانى من عمر الزمان إكتشفت جانب إنسانى وملمح من ملامح حسن الخلق فى هذا الفتى الأبنوسى وهو رسالة فى خدمة الآخرين وكأنه يترجم مقولة أن الضابط الإدارى مسؤول عن المواطن من المهد الى اللحد لذلك تجده متحركا بين معسكرات النزوح القسرى ومراكز الإيواء وحتى المقابر للوقوف على مواراة الموتى ويحتفظ بهدؤ عجيب ويبتسم وهو فى قمة الإرهاق حتى يخيل إليك أنه ولد من غير شفاه من فرط التبسم إن لم تجد عنده ما تريد فإنك تخرج منه بوعد وميعاد صادق يزرع فيك بذور الأمل ويرفع عنك درجة من درجات الألم لله درك يا جمعة مينيال مورينق*.
*يمكن القول أن جمعة هذا شرف لقبيلة أصحاب الشرائط الصفراء والكاكى الأغبش الضباط الإداريين ملح الأرض وملاحها وملامحها وبالرغم من أن جمعة هذا من دفعة ٢٠١٠ إن لم تخنِ الذاكرة قد يكون الأصغر سناً ودرجة بين كثير من دفعات الضباط الإداريين إلا أنه يتميز عليهم بأنه ضابط إدارى بدرجة إنسان يحس ويشعر بمعاناة غيرة ويعرف كيف ومتى ولماذا يضع أصبعه مكان النزف وهذا لا ينقص من حق زملائه ولا يقدح فى مهنيتهم فجميعهم خريجى مدرسة ديوان الحكم الإتحادى وفوق هذا وذاك يتمتع بقوة العزيمة والإرادة والوقوف الى جانب المظلوم علاوة على فضيلة التواضع التى يتميز بها يتعامل مع سائقه (الهرع) معاملة ملئها الإنسانية الحقة لكنه يتحول الى إنسان آخر عندما يتعلق الأمر بالضبط والربط والحقوق والواجبات*.
*جمعة مينيال نموذج لمن يطبق شعار كل أجزائه لنا وطن فهو من دينكا أبيى لكنه لا يعطى مساحة للتفكير فى أبيى كثير فعميق إنتمائه للسودان الوطن الواحد بالرغم من أن ظروف الحرب قد فرقت بينه وبين أسرته الصغيرة جعلته ما بين ولايتى سنار والقضارف وأسرته بالأبيض إلا أنه على يقين بأن الأمور ستعود الى نصابها وسيتلقى أسرته وإن طال الزمن وإن بعدت الشقة ويقينه فى الله أنه سيجتمع بأسرته طالما أنه يتعلق بأسباب السماء وأن الله سيحفظ أبنائه وزوجته حتى يعود*.
*عاد جمعة مينيال الإسبوع الماضى الى السوكى بعد تحريرها ومن المؤكد أنه سيكون بذات التلقائية وذات الحيوية ولا يسعنا إلا أن أقل له شكرا جمعة فقد علمتنى دروس صامتة فى مجال الإنسانية مع العلم أن فترة وجودنا مع بعض لم تكن طويلة فهى أيام تحسب على أصابع اليدين وتفرقنا سريعا لكن لم ينقطع حبل الوصل بيننا كن بخير يا (باشمهندس) جمعة فأنت (مهندس) فى فن العلاقات الإنسانية وأتوقع أن يكون لك شأن فى العمل الإدارى وشأن فى الحياة العامة شكرا جميلا وجزيلا يا جمعة مينيال مورينق*.
تعليق واحد