لا أدري من الذي ابتكر عبارة (خريف العمر) ليدلل بها على النهاية وبلوغ الإنسان مرحلة العجز وفناء العمر والرحيل من هذه الفانية. ومهما كان مصدر العبارة إلا أنها ظلت تدل على كبر السن والعجز ونهايات الحياة لكل من بلغ الثمانين أو التسعين أو المائة وشارف الرحيل. ولكنني أقول إن هذه العبارة قد ظلمت كثيراً وأسيء استخدامها ولم يتعامل بها الناس لا سيما أهلنا في السودان بالشكل الحقيقي الذي تستحقه. وذلك لأن الخريف في حياتنا ليس هو موعد الهلاك والموت أو الفناء وإنما هو موسم الازدهار، والخضرة، والنماء، والإبداع في كل شيء. فنحن عندما كنا صغاراً يافعين كنا ننتظر مقدم الخريف بكل الفرح والابتهاج والأمل في الخضرة والحيوية والتفاؤل الذي لا تصفه عبارت الكلام. وعند سقوط أول قطرة من الخريف كنا نتجارى ونتسامر ونصر على أن (تدقنا المطرة) بمعنى أن نعرض أنفسنا لتساقط قطراتها الرائعات التي تبدأ صغيرةً صغيرة ثم تكبر وتكبر وتزداد حتى تتحول إلى انهمار أشبه بالسيول. وفي كل الأحوال نسعد بها ونبادلها حباً بحب وابتهاجاً بابتهاج. ونظل تحت تساقط المياه ما شاء لنا القدر أن نرتع مثل السوام تحت هذا الجو الملائكي البهيج. وأكثر ما كان يسعدنا عند تساقط هذه المياه إذا جرت الخيرات وتوجهت نحو الحفائر التي نطلق على كل واحدة منها اسم (الفولة) والتي جاء منها اسم مدينة الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان التي سقطت فريسةً تحت أيدي الغزاة قبل أشهرٍ قليلات. ويظل ماء الخريف في ربوعنا مظهراً من مظاهر الحيوية الإلهية التي نعيش عليها طوال فصل الخريف وما بعده حتى موسم الدرت الذي يحمل في طياته كل خيرات الأرض الوفية. هذه الأرض التي هي أمنا الرؤوم، وهي أبونا الشفوق، وهي ملاذنا الأول والأخير من عاديات الزمان. نضع في باطنها البذور فتنبت في أسرع مما نتصور لتهبنا بادئ ذي بدء خضرةً سندسية تملأ الأرض جمالاً وبهاءاً لا يدانيه جمال. وبعد فترة وجيزة تهبنا أريجاً لا يدانيه إلا أريج الدعاش الذي يسبق لحظات هطول المطر. وبه تتغير نفوسنا نحو الأجمل، وأحلامنا نحو الأزهر، وأحاسيسنا نحو الأفضل. ونشعر كأننا قد خلقنا من جديد، أو أننا قد دخلنا جنة الخلد الموعودة في أم الكتاب. وبعد مرحلة الأريج وعبق الزهور التي تحملها خضرواتنا ونباتاتنا وأشجارنا تتوافد أسراب الطيور من كل بقاع الأرض لتعود إلى أعشاشها وأوكارها التي لا تخطؤها أبداً مهما تكاثرت الأشجار وتباعدت بها المسافات وتطاولت أيام الرحيل. ونستقبلها بكل الفرح والسعادة لأننا نعتبرها جارةً وصديقةً لنا. بل وكنا نسأل طير الرهو أن يهبنا (بيوضتين) وهو البياض الصغير الذي نلقاه بعد هذا السؤال على أظافرنا ونحسب جازمين أن الطير قد وهبنا إياه. وبعد فترة من الوقت لا تطول تسمق سنابل الذرة، والفتريتة، والسمسم، والدخن، والعنكوليب، وتفرهد أوراقها اليانعات فيخرج أهلنا ونحن معهم لنحصد هذه السنابل ونأكل منها الفريك، ونعطي الجيران الذين ليست لهم مزارع، ونضع ما تبقى في المطامير التي هي حفرةٌ في باطن الأرض نحفظ فيها ما ادخرناه للعام الجديد، فيظل محتفظاً بكل سماته حتى إذا ما فتحناه وغرفنا منه ما نشاء في أوقات الجفاف وجدناه طرياً كاليوم الذي وضعناه فيه. وترتع السوام بكل أشكالها من أبقار وأغنام وماعز وجمال في هذا البساط السندسي فيدر الضرع وتسمن الحملان وتتهادى العتان في مرح أشبه بكرنفال الطفولة. ويظل الغيث الذي تمطره السماء مصدراً للحياة لدينا في كل عام نتفيأ تحته ظلال التبلدي والنيم واللبخ والسنط والسسيسبان. ونأكل تحته كل خيرات الخريف التي تتكاثر لدينا حتى تفيض بها الأرض على سعتها وتضيق بها الأماكن على رحابتها. وتنداح الحياة بعد أن تنفرج أساريرها بكل ما هو ممتع وشيق وكأنها هدية السماء إلينا في كل عام. وظللنا على هذا المنوال نحرص عندما كبرنا أن نعود لمراتع الصبا سنوياً عندما يقترب فصل الخريف لنتهادى بين أطياف الظلال في قرانا وحواكيرنا وجبراكاتنا التي يصنع منها الخريف جنة من جنان رضوان. وبالمناسبة فقد انداحت عبر السنوات خيرات الخريف التي تنبت في مرابعنا لتسافر عبر كل مدن السودان، بل وعبر البواخر والناقلات العملاقة إلى كل دول الجوار. بل وأكثر من ذلك فقد عبرت الأجواء إلى البلاد النائيات فأكلنا في أمريكا ملاح الكول، وتذوقنا في أونتاريو بكندا أجمل القونقوليس الذي لا ينمو إلى في بادية كردفان. وتذوقنا عصير الكركدي في أقصى مدن بحر الصين الجنوبي التابعة لولاية سرواك الماليزية. وأكلنا كعكول الصمغ العربي اللين في سنغافورة، وتسامرنا ونحن نأكل الفول السوداني والتسالي في مقهىً صغير بمدينة ميلانو الإيطالية بعد أن تم تصديره من خيرات خريف كردفان الذي أخرجه أبناؤنا من حب البطيخ الذي زرعوه بالقرب من حفر الجير في قيزان النهود والأضية أب زكريا. فهل بعد كل هذا يقول لي أحدهم إن (خريف العمر) يعني الفناء وبلوغ سن اليأس وموت الإنسان؟