حينما كنا صغاراً كنا مولعين بالقراءة إلى حد الثمالة. ولم يقع بين أيدينا كتاب إلا والتهمناه من الغلاف إلى الغلاف. وكان أجمل ما لدينا حينما نجلس في الليالي المقمرات مع أصدقائنا أن نجتر آخر ما قرأناه من المؤلفات التي لا تفلت من بين أيدينا مهما كانت الظروف. وكنا نتفاخر بما حصدناه من سطور الكتب، ونتباهى بحصيلتنا المعرفية التي هي كل زادنا في الحياة. وكانت متعتنا الكبرى أن نزور المكتبات، ونتأمل العناوين الجديدة، ونلتهم ما بين السطور. والبيئة من حولنا تساعدنا على تنمية هذه الهواية التي أصبحت هوية لمعظم أبناء جيلنا. وكان المزار الأسبوعي لكل الشباب في مدينتنا هو مكتبة عبد الرحمن الزين، ومكتبة شيخ مدني عبد القادر، قبل أن تنشأ مكتبة أبو عاقلة عبد الرحمن. كنا ندون أسماء الكتب التي قرأناها بكل عناية ودقة، ونضمن التوثيق عنوان الكتاب واسم المؤلف ودار النشر التي أصدرته والسنة التي خرج فيها الكتاب للجمهور مع رقم الطبعة التي قرأناها. وكان الكل منا يفتخر بين أقرانه عندما يزيد ما قرأه على حصيلة الأصدقاء. لم تكن هناك حدود لحجم القراءة ولا قيود لنوعية الكتب التي نطالعها. فالأدب، والثقافة، والسياسة، والفنون، والعلوم، والجغرافيا، والتاريخ، والدين، والنقد بأشكاله المختلفة كلها قواسم مشتركة لقراءاتنا، لا سيما عندما كنا في طور التكوين بالمرحلتين المتوسطة والثانوية. وكانت المدارس والمعاهد والكليات تتبارى لتلبية نهم أبنائها على القراءة، وتشجع الكل على الاطلاع من خلال بسط المؤلفات بمختلف أشكالها وأحجامها ومضامينها على أرفف مكتباتها ودوايبها الزجاجية. ولم تكن هناك مدرسة في السودان بلا مكتبة. بل ولا يوجد بيت بلا مكتبة إذا كان هذا البيت يحترم نفسه ويثري حياة أبنائه أو حتى زائريه. وكذلك المرافق العامة التي حرصت هي الأخرى على تكوين مكتبات لزوارها. فلم يكن هناك نادٍ بلا مكتبة، ولا مركز شباب بلا مكتبة. وبالطبع لم تكن هناك كلية بلا مكتبة. كان الجيل كله مولعاً بالقراءة إلى حد الجنون، حيث القاسم المشترك بين الجميع هو الاطلاع العميق على الكتب. وكانت فرحة الجميع تتحقق إذا أثار كتاب جديد جدلاً بين الناس أو فتق شهيتهم للمطالعة. وأكثر ما أثار مشاعرنا في تلك المرحلة اليانعة من حياتنا رواية أديبنا الكبير الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال). ثم ظهرت بعدها بقليل رواية (لا تؤرقي صمتي) للكاتب الدكتور إبراهيم عبد العزيز من أبناء مدينة الأبيض. وكذلك رواية عندما (يهتز جبل البركل) للأديب العظيم مختار عجوبة. وجاءت بعدها رواية (دموع القرية) لكاتبنا الكردفاني الشاب وقتها فضيلي جماع. وبين هذا وذاك كنا نطلع على الروايات المترجمة لأجاثا كرستي التي نالت قصب السبق لدينا عندما كنا بالمرحلة الوسطى. وكانت مؤلفات تولستوي، وديستوفسكي، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وكامل كيلاني، وإبراهيم إسحق، وجبران خليل جبران، وصلاح أحمد إبراهيم، وأنيس منصور، وطه حسين، والعقاد ذات وقع خاص في نفوسنا. وفضلاً عن ذلك كان لدى الجميع مجموعة ضخمة من سلسلة إقرأ التي تختصر المعرفة في صفحات قليلة وبأسلوب مبسط يتيح الثقافة بأزهد الأثمان لكل من يريد. وتصل إليه في مكانه مهما نأى عن بلد الناشر. وأكثر ما كان يسعدنا في تلك المراحل المشرقة من حياتنا عندما يدخل علينا أحد المعلمين وبين يديه صندوق الكتب الذي ينثره بين أيدينا في نهاية الأسبوع ليأتي كل طالب ويأخذ ما يشاء. وأجمل ما فيها عندما تكمل كتابك تستبدله مع من أكمل قراءة الكتاب الذي لديه. وبذلك تستطيع أن تطلع على عدد لا محدود من الكتب بلا مقابل. كانت ثقافة جيلنا عالية بكل المقاييس، ومعلوماتهم غزيرة إلى حد التخمة، وشواهدهم حاضرة بلا حدود، وشخصياتهم قوية كما الفولاذ والصخور العصية. أما الآن وبعد أن ضاعت الديار وشحت موارد الثقافة وتلاشت المكتبات وهجر الشباب القراءة، وأصبح غاية ما يصبو إليه الفتى أن (يصاقر) الموبايل ثلاثة أرباع اليوم ليجد إسفافاً، وجهلاً فقد ضاعت الثقافة، وضاع الوقت، وضاعت القيم، وضاعت الأخلاق، وضاع الفكر، وضاع الدين، وأصبح الفكر مجرد ريشةٍ في مهب الرياح.