في صيف العام 2015 استضاف السودان لقاء جمع رؤساء السودان ومصر واثيوبيا للتوقيع علي وثيقة سد النهضة و هي اتفاقية إعلان مبادئ بين مصر وإثيوپيا والسودان حول مشروع سد النهضة، تم التوقيع عليها في الخرطوم في مارس من العام المذكور في قمة متفردة ضمت رؤساء الدول الثلاث .. بجانب حضور فخيم من عدد من المنظمات الاقليمية والدولية.. كواليس ذلك التوقيع وماسبقه من تحضير.. كنت قريبا منها بحكم عملي ضمن طاقم الإعلام في وزارة الموارد المائية والكهرباء.. طبيعة مشاركتنا في الجلسات التحضيرية التي سبقت التوقيع كانت كفيلة بأن تجعلني اجدد ثقتي في القائمين علي امر التوقيع في جميع المستويات.. كان يدفع الجميع احساس عميق بأهمية هذا المشروع للدول الثلاث تعظيما للموارد الاقتصادية المتمثلة في الطاقة لدي إثيوبيا و الأرض لدي السودان الكفاءات البشرية الضخمة وخبرات الإصلاح الزراعي التي تتمتع بها مصر.
في تلك الفترة وقبلها.. تشكل لدي وعي كبير بأهمية مصر كبلد رائد ظلت تقوده نخبة مستنيرة تعمل علي الدوام لصالح تطور هذآ البلد كما ظل مشروع وحدة شعبي وادي النيل حاضرا في اجندتها دون ابتزاز او تدخل في الشأن الدخلي لبلادنا .. قبل ذلك بعض مافي الذاكرة البعثة التعليمية المصرية بموسساتها التعليمية المختلفة اشهرها مدرسة جمال عبد الناصر والمدرسة التوفيقية و القبطية وجامعة القاهرة بالخرطوم والري المصري وخزان جبل أولياء الذي تم تشيده في عام 1937 بواسطة الحكومة المصرية التي كانت تشرف علي كافة العمليات الفنية والهندسية والإدارية حتي العام 1977.. بعدها انتقلت المهام بصورة سلسة للحكومة السودانية.
كذلك في الذاكرة الاديب الكبير عباس محمود العقاد وانا من محبيه الذي اختار للسودان وطن بديل.. فى العام 1943 لمواصلة الإبداع الفني والكتابي حين كان يبحث عن الأمن والسلامة والطمأنينة بعد أن وضعته النازية ضمن المطلوبين.. كذلك لاننسي سيدة الغناء العربي ام كلثوم التي مثلت زيارتها للسودان علامة فارغة في تاريخها الفني و الموسيقي حيث استقبلها الشعب السوداني بالحب والقبلات والدموع.. مما لفت نظرها لهذا الذوق الرفيع فاخذت تبحث عن مايعمق هذا الرابط الوجداني فوجدت ضالتها في أغنية أغدا ألقاك ، للشاعر السوداني الضخم الهادي آدم، التي لحنها محمد عبدالوهاب.. واصبحت بعدها من أجمل ماغنت هذه المبدعة الاسطورة التي خلدها التاريخ.
كذلك كانت زيارة الرئيس جمال عبد الناصر بعد حرب عام 1967م كانت زيارة ملهمة جدد فيها الشعب السوداني عزيمة القادة لجولة جديدة كانت في 1973م حيث العبور من نكسة الي انتصار.. كانت الخرطوم حينها نضرة لها كثير ماتقدمه للاشقاء من محبة وامال عزيمة حيث ولد حينها “مؤتمر اللاءات الثلاثة” كان دعما كبيرا لقضية فلسطين قضية الإسلام والعروبة.. ظلت مصر بين كل هذه التقلبات وهذه التحديات شامخة بشعبها وانسانه وقيادتها وظل السودان مشبعا بهذا الإخاء وهذا المصير المشترك.. الذي صنعه المزاج العام للجماهير و النخب والمثقفين .. في تلك الفترة المخملية النضرة كانت مصر تمثل احلام المثقفين وطلاب العلم في التفوق والصعود.. وكانت للمرضي امل الاستشفاء وبعث الحياة و إستمرارها.. وكانت لأهل الاقتصاد والتجارة النهوض وكنز الثروات وللشباب الطموح والمسرح وكرة القدم.. وللداخلين لعالم الأسرة من الأزواج غاية الأحلام و الآمال.
الي ان حلت بالسودان فجيعة الحرب وماسبقها من تحضير وتامر دولي و إقليمي .. ظلت مصر تبذل قصار جهدها لرتق الفتق الذي بدأ في اتساع منذ ألعام 2019م.. وماتزال تساعد في الخروج من هذا الواقع الأليم المظلم الذي عصف باستقرار البلاد وامنها.. حيث قدمت افضل المبادرت في محاولة احلال السلام في بلادنا.. حين جمعت رؤساء دول جوار السودان في قمة أكدت علي وحدة السودان وعدم التدخل في الشأن الداخلي والحفاظ علي السيادة الوطنية ومؤسسات الدولة.. كما دعمت موقف السودان حول ذات المضمون في بيان الجامعة العربية.. وظلت مساندا للسودان في كافة المحافل الاقليمية والدولية.. بجانب ذلك ظل السفير المصري بالسودان هاني صلاح مرابطا مع قيادة الحكومة السودانية يشاطرها الهم والتدبير انتقل معها الي بورسودان وباشر مهام عمله حضورا وتنسيقا ونشاط.. وكانت اولي قوافل المساعدات الإنسانية التي هبطت في مطار بورسودان قادمة من مصر.. هذا خلاف النقل البري الذي سد فجوة الاحتياجات اليومية بعد أن خرجت مصانع المواد الغذائية السودانية من الخدمة جراء الحرب.
وصلا لهذا الوفاء استضافت مصر 600 الف مواطن سوداني هربا من الحرب وبطش المتمردين لجو إليها بالفطرة مضوا تجاه جريان النيل الذي يوحد الوجدان والثقافة والطموح والمصير المشترك.. وسبقتهم اعداد اخري من زمن بعيد يتشاركون مع أهل مصر كل شيء.. الطعام والشراب والخدمات والتعليم .. لم يضيق بهم المكان ولا الناس.. كما حدثني احد الأصدقاء الإعلاميين بأنهم بل كل السودانيين يشعرون بالأمن والأمان في مصر دون غيرها وذلك لاعتبارات كثيرة اقلاها تقارب المزاج العام مع هذا الشعب الذي كان في الموعد وقدم كل مايملك لأهل السودان في هذه المحنة العابرة.. كل الشكر والامتنان لمصر حكومة وشعب والشكر الخاص للسيد السفير هاني صلاح الذي أكد علي أصالة معدنه.. لن ننساها لمصر الانسان والعروبة و التاريخ والحضارة.
دمتم بخير وعافية. [email protected]
ممتاز