مقالات الرأي
أخر الأخبار

ماذا تحت الغربال ؟ – من أعلي المنصة – ✍️ ياسر الفادني

في حديثه الأخير، تناول الفريق أول عبد الفتاح البرهان مسألة المؤتمر الوطني بعبارات حملت في طياتها مزيجًا من الوضوح السياسي والحصافة الاستراتيجية، وهو حديثٌ استوجب فهمًا متعمقًا واستقراءً دقيقًا للمرحلة الراهنة وما تقتضيه من مواقف تتجاوز ردود الفعل الانفعالية إلى التفكير في المآلات الكبرى للوطن. لم يكن حديثه إقصائيًا ولا انفعاليًا، بل كان يحمل رسالة دقيقة مفادها أن السودان اليوم بحاجة إلى مرحلة مختلفة، تُبنى على دروس الماضي دون الوقوع في أخطائه.

 

الفهم الصحيح لهذا الحديث يقتضي إدراك أن السودان دولةٌ تتغير وفق مقتضيات الواقع لا وفق رغبات الأفراد أو التيارات، وأن مسألة التعامل مع المؤتمر الوطني أو غيره من القوى السياسية لا يمكن أن تخضع لمنطق التصفيات السياسية أو الثارات الفكرية، بل يجب أن تخضع لمنطق الدولة، حيث المصلحة الوطنية هي البوصلة التي توجه القرارات، وليس الرغبة في إرضاء طرفٍ أو معاقبة آخر. البرهان كان يدرك حساسية هذه النقطة، فاختار كلماته بعناية، مؤكدًا أن السودان لا يمكن أن يعود إلى الوراء، لكنه في ذات الوقت لن يكون رهينة لسياسات الإقصاء والانتقام التي لا تنتج إلا مزيدًا من الأزمات.

 

الدرس المستفاد من هذا الحديث هو أن السياسة ليست ساحةً لتصفية الحسابات، بل هي فن إدارة التنوع والمصالح المتباينة بما يحقق الاستقرار للدولة والمجتمع. المؤتمر الوطني كان جزءًا من المشهد السياسي السوداني لعقود، وله مناصرون وخصوم، لكن التعامل معه لا يمكن أن يكون بمنطق الاجتثاث المطلق، كما أن إعادة إنتاجه بنفس الصورة السابقة ليست خيارًا مطروحًا. المطلوب اليوم ليس استعادة تجارب الماضي، بل استيعابها وفهم أسباب تعثرها، والعمل على بناء نموذجٍ جديدٍ يراعي الأخطاء السابقة دون أن يكررها.

 

الحصافة في حديث البرهان تتجلى في إدراكه أن السودان ليس بحاجة إلى معارك جانبية تستهلك طاقته وتبدد جهوده، بل إلى رؤية سياسية تستطيع العبور به نحو الاستقرار. الإقصاء المطلق يخلق أزمات لا تقل خطورةً عن الاحتكار المطلق، وكلاهما يؤديان إلى ذات النتيجة: انسداد الأفق السياسي. الرسالة التي يمكن قراءتها بين السطور هي أن السودان يجب أن يكون لكل أبنائه، وفق قواعد جديدة تقوم على التوافق الوطني، وليس على الإملاءات الأيديولوجية أو الحسابات الضيقة.

 

التحليل الحصيف لهذا الحديث يقود إلى استنتاجٍ جوهري، وهو أن السودان يمر بلحظة مفصلية تتطلب توازنًا دقيقًا بين الاعتراف بالماضي دون الارتهان له، والانطلاق نحو المستقبل دون أن يكون ذلك قفزًا في الفراغ. البرهان لم يكن يتحدث من منطلق شخصي، بل كرجل دولةٍ يرى المشهد كاملًا، ويدرك أن السياسة لا تحتمل القرارات العاطفية، بل تحتاج إلى قراراتٍ تزن المصلحة الوطنية قبل أي شيء آخر. في نهاية المطاف، فإن ما يحدد مستقبل السودان ليس الشعارات، بل القدرة على بناء أرضية مشتركة تضمن استقراره وتماسكه في وجه التحديات الداخلية والخارجية.

 

في ظل هذا المشهد المعقد، فإن المؤتمر الوطني، إذا أراد أن يكون جزءًا من مستقبل السودان لا مجرد صفحة من ماضيه، عليه أن يتعامل مع الواقع بعقلانيةٍ ووعيٍ بالتغيرات التي طرأت على البلاد. لم يعد السودان كما كان قبل سنوات، والمعادلات السياسية لم تعد تحتمل إعادة إنتاج التجارب السابقة دون مراجعةٍ نقديةٍ جادة. الحكمة تقتضي أن يدرك المؤتمر الوطني أن العودة إلى الساحة لا تكون بالتحدي والصدام، بل بالمراجعة والتطوير، وأن السودان اليوم بحاجة إلى خطابٍ سياسيٍ جديد، متزنٍ وواقعي، يضع الوطن فوق الحسابات الحزبية، ويقدم حلولًا حقيقية للأزمات بدلًا من الدخول في صراعاتٍ لا طائل منها.

 

إن أي محاولة للعودة بذات الأدوات والمنهجيات السابقة لن تؤدي إلا إلى مزيدٍ من الاستقطاب والانقسام، ولذلك فإن الخيار الأكثر حكمةً هو التجديد العميق، ليس فقط في الخطاب بل في الممارسة السياسية ذاتها. يجب أن يدرك المؤتمر الوطني أن مسؤوليته اليوم ليست فقط الدفاع عن إرثه، بل المساهمة الفاعلة في بناء مستقبل السودان على أسسٍ جديدةٍ من الانفتاح السياسي، والتعاطي العقلاني مع القوى المختلفة، والابتعاد عن أساليب المواجهة التي لم تجلب للسودان سوى مزيدٍ من الأزمات.

 

المطلوب هو مقاربةٌ جديدة، قائمة على الاعتراف بأخطاء الماضي والاستعداد للتفاعل الإيجابي مع الواقع الحالي، بعيدًا عن منطق العناد السياسي أو الرغبة في استعادة النفوذ بالقوة. إن البلاد تعيش مرحلةً تتطلب نضجًا سياسيًا، واستعدادًا للاندماج في مشروعٍ وطنيٍ شامل، لا أن يكون كل طرفٍ معنيًا فقط بمصالحه الحزبية. إن لم يدرك المؤتمر الوطني هذه الحقيقة، فسيجد نفسه معزولًا عن المشهد، غير قادرٍ على التأثير فيه، بينما إذا تعامل مع المتغيرات بوعيٍ وتعقل، فقد يكون له دورٌ إيجابيٌ في إعادة صياغة مستقبل السودان بما يخدم استقراره ونهضته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى


انضم الى لقناة (زول نت) تلقرام