لأكثر من سبعة عقود كان الدولار الأمريكي هو المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي وأداة الهيمنة التي استخدمتها واشنطن لفرض إرادتها على الدول الأخرى لكنه اليوم يواجه تحديات غير مسبوقة قد تضعف قبضته وتعيد تشكيل النظام المالي الدولي بطرق قد تغير موازين القوى الاقتصادية والعسكريه
فمنذ أن تخلت الولايات المتحدة عن معيار الذهب عام 1971 لم يعد للدولار غطاء حقيقي لكن واشنطن وجدت بديلا أكثر قوة ( البترودولار ) فقد فرضت على دول الخليج بيع نفطها حصريا بالدولار مما أجبر كل دول العالم على جمع هذه العملة لتأمين إمدادات الطاقة
بهذا النظام أصبحت كل من اليابان الصين الهند وأوروبا بحاجة إلى تخزين الدولارات في بنوكها لشراء النفط مما رسخ موقع العملة الأمريكية كأداة هيمنة عالمية لكن ماذا لو تغيرت المعادلة؟
ماذا لو قررت الدول النفطية بيع نفطها بعملات أخرى؟
سؤال خطير أجاب عليه خبير اقتصادي صيني بقوله ( إذا تخلت الدول العربية عن الدولار في بيع النفط فستواجه العملة الأمريكية انهيارا قد يدفع الجيش الأمريكي إلى التدخل العسكري لحماية مصالحه )
إعلان السعودية عن بيع النفط باليوان الصيني ضمن اتفاقية اقتصادية مع بكين يعد تطورا مفصليا هذه الخطوة إذا تبعتها بقية دول الخليج ستشكل ضربة قاسية للبترودولار وقد تؤدي إلى تحولات كبيرة في الاقتصاد العالمي
القرار السعودي لا يقتصر على الاقتصاد فقط بل يحمل دلالات سياسية واضحة فمنذ تولي جو بايدن الرئاسة شهدت العلاقة بين الرياض وواشنطن توترا متزايدا بدءا من موقف أمريكا تجاه مقتل خاشقجي، مرورا بتوجهاتها الداعمة لإيران وصولا إلى رفض بايدن تلبية المطالب السعودية في قضايا الطاقة والدفاع
رد الفعل السعودي جاء حاسما رفض ولي العهد محمد بن سلمان الرد على اتصال بايدن خلال أزمة الطاقة ثم رفض زيادة إنتاج النفط لتعويض النقص الناتج عن العقوبات على روسيا والآن اتخاذ خطوة قد تضعف هيمنة الدولار
الصين لم تكتف بتحدي الدولار في سوق الطاقة بل تقود ثورة اقتصادية وتقنية تجعل من تفوقها مسألة وقت من مشروع طريق الحرير إلى السيطرة على سوق السيارات الكهربائية إلى الطفرة الهائلة في التكنولوجيا والاتصالات الصين تتحرك بسرعة نحو الريادة العالمية
أوروبا نفسها باتت تدرك أن الولايات المتحدة لم تعد الشريك الاقتصادي الأكثر موثوقية ألمانيا التي تعتبر من عمالقة صناعة السيارات بدأت تتجه نحو تطوير مركبات كهربائية لمواكبة الطوفان الصيني بعدما أدركت أن الشركات الصينية باتت تنافس بقوة في هذا المجال
الأمر نفسه ينطبق على قطاع التكنولوجيا حيث تواجه أمريكا تحديا كبيرا في محاولتها كبح جماح شركات مثل هواوي التي استطاعت تطوير تقنيات تنافس بقوة شبكات 5G الأمريكية بل وبدأت في اختراق الأسواق الأوروبية رغم العقوبات
الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن ملامح نظام اقتصادي عالمي جديد روسيا التي واجهت عقوبات اقتصادية شديدة انتقلت إلى بيع النفط والغاز بالروبل وهو ما أجبر الدول الأوروبية على التعامل بعملتها مما أضعف الدولار أيضا
الصين بدورها تدعم هذا التحول عبر تطوير نظام مالي بديل لنظام ( سويفت ) الذي تتحكم فيه أمريكا وهو ما يقلل من قدرة واشنطن على استخدام العقوبات كسلاح اقتصادي فعال
كل هذه المتغيرات تدفع أوروبا لإعادة التفكير في تحالفها مع أمريكا مع ارتفاع تكاليف الطاقة والتضخم والتوترات الجيوسياسية أصبحت ألمانيا وفرنسا تبحثان عن علاقات اقتصادية أكثر توازنا مع الصين وروسيا بعيدا عن الضغوط الأمريكية
سقوط الإمبراطوريات لا يحدث بين ليلة وضحاها لكنه يبدأ بتغيرات تدريجية تقود في النهاية إلى تحول جذري الدولار الذي كان يوما رمز القوة الأمريكية يواجه اليوم تحديات لم يشهدها من قبل
إذا استمرت السعودية والخليج في التخلي عن الدولار في مبيعات النفط وإذا تمكنت الصين من فرض نظام مالي عالمي جديد فإننا قد نشهد خلال العقود القادمة تحولا جذريا في ميزان القوى العالمي
التاريخ يخبرنا أن القوى العظمى تبدأ بالتراجع تدريجيا قبل أن يأتي الحدث الذي يسقطها نهائيا فهل سيكون انهيار هيمنة الدولار هو بداية أفول الإمبراطورية الأمريكية؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة