قصف مستشفى الفاشر وتغير المواقف الاقليمية والدولية ؟! – وجه الحقيقة – ✍️ إبراهيم شقلاوي
تسارعت ردود الفعل الإقليمية والدولية إزاء القصف الذي استهدف المستشفى السعودي في مدينة الفاشر والذي أسفر عن مقتل وإصابة أكثر من 70 شخص من المدنيين . ورغم أن الإدانات حملت بُعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا في ظاهرها إلا أن التوقيت وحجم هذه البيانات يكشف عن أبعاد كبيرة ، تعكس تغيّرًا ملموسًا في المواقف الدولية تجاه الحرب في السودان ، لا سيما في ظل التطورات الميدانية التي تشير إلى تقدم القوات المسلحة السودانية في مواجهة مليشيا الدعم السريع المتمردة .
الإدانات التي صدرت عن كلٍّ من تركيا وقطر والسعودية والإمارات وجامعة الدول العربية ورابطة العالم الاسلامي والخارجية الإيرانية حملت خطابًا موحدًا يشدد على الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وضرورة حماية المدنيين . إلا أن هذه المواقف تتجاوز الجانب الإنساني لتلمح إلى تحول تدريجي في مواقف هذه الدول تجاه الحرب السودانية . فبينما اتسمت بعض الدول بالحذر في التعامل مع ما يجري في السودان ، تشير لهجة التصريحات الأخيرة إلى تقارب أكبر مع القوات المسلحة السودانية المدعومة بشرعية الدولة ، لا سيما مع الإنجازات العسكرية الأخيرة التي حققتها في تحرير ولاية الجزيرة والخرطوم بعد فك الحصار عن القيادة العامة وسلاح الاشارة وطرد المليشيا من مصفاة الجيلي للبترول .
يلاحظ أيضاً في هذه الإدانات هو توحيد خطابها حول دعم استقرار السودان عبر تمكين الجيش السوداني من إنهاء التمرد . بيانات دول الخليج على وجه الخصوص، تعكس تحولًا من الحياد المعلن إلى دعم أكثر وضوحًا للجيش السوداني . إعلان الإمارات بالرغم من انه حمل اشارات مبطنه بالحديث عن الشعب دون الحكومة دعمها لحل سلمي مع التشديد على حماية المدنيين إلا أنها خطوة مهمة ربما تعد تمهيدا لاجتماعات محتملة بينها والقيادة السودانية بحسب ما رشح من مبادرات التركية والمصرية ، وكذلك دعوة السعودية لتنفيذ إعلان جدة الموقع في 11 مايو 2023 يظهران أن هذه الدول بدأت تنظر للجيش السوداني كضامن للاستقرار ، وهو تطور يعكس تغيرًا جوهريًا في ديناميكيات السياسة الإقليمية تجاه السودان .
أيضا إدانة تركيا لقصف المستشفى السعودي في الفاشر مثّلت تطورًا لافتًا ، حيث لم يسبق لأنقرة أن أصدرت أي بيانات مماثلة تدين انتهاكات مليشيا الدعم السريع . هذا التحول يشير إلى تغيّر في القراءة التركية لحرب السودان وربما ذلك دليل علي خطوات محرزة ضمن وساطتها بين السودان والإمارات التي حملها للقيادة السودانية نائب وزير خارجيتها مطلع الشهر الجاري . ورغم أن موقف أنقرة كان تاريخيًا أقرب إلى الحياد النسبي تجاه أطراف الحرب ، فإن تصاعد الخسائر الإنسانية وتقدم الجيش السوداني على الأرض قد دفع تركيا لإعادة تقييم سياساتها . إدانتهم العلنية في هذه المرحلة قد تكون مؤشرًا على رغبتهم في تحسين علاقتهم مع السودان ما بعد الحرب ، وخاصة أن تركيا تسعى لتعزيز نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي في المنطقة .
في السياق شهدت مواقف دول مثل كينيا تحولًا ملحوظًا ، حيث بدأت في مراجعة سياساتها تجاه الحرب في السودان ، بعد إدراكها صعوبة استمرار الدعم السياسي أو التحيز لمليشيا الدعم السريع . تصريحات الرئيس الكيني وليام روتو بعدم الاعتراف بأي حكومة منفى سودانية ، التي عكسها وزير الخارجية السوداني الدكتور علي يوسف الشريف عقب زيارته كينيا الأسبوع الماضي وتصاعد الجهود الكينية داخل الاتحاد الأفريقي لدعم رفع تجميد عضوية السودان ، تعكس هذا التغير الكبير في الموقف الكيني والذي سوف تترتب عليه مواقف أخرى من بعض الدول الأفريقية بالنظر للجولة الأفريقية التي قام بها رئيس مجلس السيادة السوداني ، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، منتصف الشهر الجاري إلى خمس دول أفريقية لترجمة المكاسب العسكرية التي حققها الجيش على الأرض ، والتي شملت مالي وغينيا بيساو وسيراليون والسنغال وموريتانيا ، وقد تحدثنا عن ذلك في مقال سابق تحت عنوان دبلوماسية الضرورة وحصاد النقاط .
التقدم العسكري واستقرار الموقف السياسي للقوات المسلحة بدأ يفتح آفاقًا لتحسين العلاقات الاقتصادية مع القوى الدولية . تصريحات وزير المالية السوداني جبريل ابراهيم بالأمس والتي نقلها موقع” اخبار السودان ” حول وعود صينية بالاستثمار في البنى التحتية ، وتوسيع إنتاج النفط ، والكهرباء والطرق تعكس اهتمامًا متزايدًا من قوى دولية كبرى بمستقبل السودان ما بعد الحرب . هذه التحركات الاقتصادية، التي تأتي بالتوازي مع المواقف السياسية والعسكرية المتغيرة ، تشير إلى إدراك الدول الكبرى للأهمية الجيوسياسية للسودان في الإقليم . مع استقرار الأوضاع الميدانية ، بدأت القيادة السودانية تتحدث عن خطط إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات . خطوة عملية نحو استعادة الاقتصاد السوداني عافيته ، مما يعكس ثقة متزايدة بقدرة الجيش وانتصاراته على تأمين المناخ المناسب للاستثمار .
تصريحات رئيس مجلس السيادة قائد الجيش بأن الخرطوم ستكون قريبًا “خالية من التمرد” تؤكد سعي القيادة العسكرية لتوجيه رسالة واضحة بأن الحسم العسكري بات قريبًا ، وأن الجيش يملك زمام المبادرة على الأرض .
لذلك في سياق التحليل السياسي الأوسع ، وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة يمكن القول إن الإدانات الدولية تعكس منطق القوة الذي يحكم العلاقات الدولية . التغيرات الميدانية لصالح الجيش السوداني ، خاصة السيطرة على مناطق استراتيجية في الخرطوم وبحري وتحرير مدني ، دفعت العديد من الدول إلى مراجعة حساباتها . باعتبار أن منطق السياسة الدولية لا يرتكز على العواطف ، بل على قراءة دقيقة لموازين القوى على الأرض ، القصف الذي تعرض له مستشفى الفاشر كان مأساويًا لكنه كشف عن مواقف سياسية متحركة على المستويين الإقليمي والدولي . التحولات الميدانية لصالح الجيش السوداني دفعت العديد من الدول إلى الاصطفاف خلف القيادة العسكرية كخيار استراتيجي لاستعادة الامن و السلام في السودان .
دمتم بخير وعافية .
الثلاثاء 28 يناير 2025م [email protected]